ثمة أربعة تطورات مهمة جرت على نسق زمني، وأشرت على تحول مفصلي في سياسة المغرب تجاه أوروبا، أولها اعتذار وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، السيد ناصر بوريطة، عن الحضور للمنتدى الأورو متوسطي في مدريد، والثاني، ما يرتبط بتطور آليات الشراكة الاستراتيجية بين الرباط ولندن، والإعلان السياسي المشترك الذي صدر عن الدورة الثالثة للحوار الاستراتيجي بين المملكتين، والثالث، يتعلق بالقمة التي انعقدت بالعاصمة المجرية بودابست والتي جمعت منظمة «فيسغراد» بالمغرب، والتي تعكس جزءا من الرهانات المتبادلة بين دول أوروبا الشرقية والمغرب. وأما الرابع، فيخص، رد فعل سفارة ألمانيا بالرباط، حول ما نسب إلى تقرير استخباراتي ألماني من تحذير من توسع إقليمي للمغرب في المنطقة.

هذه التطورات، تؤشر على اتجاهين متوازيين في السياسة الخارجية المغربية، الأول، ينحو منحى مزيد من الضغط على إسبانيا وألمانيا، في حين يتجه المنحى الثاني، إلى تنويع الشراكات، وتقوية البعد الاستراتيجي فيها، وتأكيد محورية المغرب في أي امتداد اقتصادي أو تجاري نحو العمق الإفريقي.

جريدة «الباييس» الإسبانية، لم تخف الإحباط الذي شعر به الجانب الإسباني من جراء اعتذار المغرب عن حضور المنتدى الأورو متوسطي في مدريد، فوزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس، كان دائما يراهن على سياسة الهدوء، وعدم التصعيد لعودة العلاقات المغربية الإسبانية إلى طبيعتها، لكنه، يواجه اليوم، ضغوطا شديدة من قبل العديد من النخب، بما في ذلك النخب العسكرية والأمنية في بلاده، والتي باتت تضيق بسياسة الانتظار التي تنتهجها الحكومة الإسبانية، في الوقت الذي يحقق فيه المغرب تقدما كبيرا، ويتجه إلى مزيد من خنق الاقتصاد الإسباني، ووضعه أمام الأمر الواقع.

بعض النخب البحثية القريبة من المؤسسة العسكرية والأمنية بإسبانيا، بالغت في الأيام الأخيرة، في التحذير من الذكاء الاستراتيجي المغربي، ومن قوته العسكرية، ومخاطر التحالف المغربي الأمريكي الإسرائيلي، وتهديد ذلك لمنظومة الأمن الإسباني، لكن رئاسة أركان الجيش الإسباني، حاولت أن تقلل من هذه التخوفات، وأن تؤكد بأن تسلح المغرب لم يصل بعد إلى مستوى تهديد إسبانيا ولا حتى تهديد سبتة ومليلية المحتلتين.

لكن في المقابل، لم يخف الجانب الإسباني، انزعاجه من توسيع المغرب لشبكة مزراب التون في مياهه الإقليمية المقابلة للجزر الجعفرية المحتلة إسبانيا.
مدريد اليوم، تخشى أن تتجه إلى سياسة رد الفعل مع المغرب، وتقضي على مسار من سياسة الهدوء التي انتهجها وزير الخارجية الإسباني من أجل عودة العلاقات إلى طبيعتها مع الرباط، في حين، تنتهج الرباط سياسة حذرة تجاه مدريد، فتُبقي على حالة الالتباس لدى الإسبان، فلا هي تقبل بعودة العلاقات إلى طبيعتها، ولا هي تغذي عمليات التصعيد فيها، بل تلتزم بالحرف، بتوجيهات الملك، التي جعلت من شرط إنهاء التردد والغموض والازدواجية في الموقف من الدول الأوروبية محددا أساسيا في علاقات المغرب مع دولها.

توجه المغرب إلى بريطانيا، ليس جديدا (تعود بداياته لسنة 2019) فهو ثمرة مسار طويل، بلغ مستوى مهما من النضج، لكن مخرجات الدورة الثالثة للحوار الاستراتيجي بين المملكتين، تشير إلى مستوى أكبر من العلاقات، يتداخل فيها البعد الاقتصادي التجاري، بالبعد العسكري والأمني، فالأمر يتعلق بدخول العلاقات المغربية البريطانية مستوى استراتيجيا، تستفيد منه الرباط من ثلاث جهات على الأقل، الأولى، من خلال دعم بريطانيا لجهود المغرب في تسوية النزاع في الصحراء، وما يعكس ذلك هو إشادتها بقرار مجلس الأمن الأخير.

والثانية، تعزيز الشراكة الاقتصادية والتجارية، بما يوفر للمغرب بديلا عن الدول الأوروبية التي تعتري علاقاته الدبلوماسية معها بعض التوتر بسبب موقفها من الصحراء لاسيما وأن الدورة بين الرباط ولندن خلصت إلى إنشاء لجنة فرعية مكلفة بالتجارة، الاستثمار، الخدمات، الفلاحة، الصيد البحري، الجوانب الصحية (أي المنتوجات التي يوجهها المغرب بكثافة إلى الاتحاد الأوروبي) والثالثة، ما يرتبط بالتنسيق الأمني والاستراتيجي.

هذا التوجه، أي السعي إلى تنويع الشراكات وتوسيعها، امتد أيضا إلى أوروبا الشرقية، فقد اتجهت استراتيجية الرباط، منذ أن دخلت علاقاتها في توتر مع ألمانيا، إلى أوربا الشرقية، وحاولت الانطلاق أولا من هنغاريا، ليثمر هذا المسار، مشاركة المغرب في قمة مجموعة فيسغراد.
لا يقتصر الكسب الذي سيحققه المغرب من هذا التوجه في جلب دعم أوروبي آخر إلى جهود المغرب لتسوية نزاع الصحراء، ولكنه يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو خلق مناصر قوي من داخل الاتحاد الأوروبي لمصالح المغرب، فدول فيسغراد لا تفتأ تؤكد في تصريحات وزراء خارجيتها على أن المغرب شريك ذو مصداقية بالنسبة إلى أوروبا، وأنه مصدر للاستقرار على المستويين الإقليمي والدولي، فالمغرب يريد من هذه الدول أن تلعب دورا أساسيا داخل الاتحاد الأوروبي لدعم مصالحه، أو على الأقل مقاومة الأدوار الأوروبية المناهضة لمصالحه، وذلك في مقابل، أن يعمل على توفير أرضية ومنصة لمرور منتجات هذه الدول واستثماراتها إلى العمق الإفريقي.

ألمانيا، وضعت في حرج شديد بسبب ما نسب إلى جهازها الاستخباري من خلاصات ومخرجات تقرير تتعلق بتصورها للدور المغربي في المنطقة، بل تصورها لعقل ومزاج ورؤية الملك المغربي، وكونه يريد في منطقة شمال إفريقيا والغرب الإفريقي أن يقوم بالدور نفسه الذي يقوم به رجب طيب أردوغان وأن برلين لن تسمح لذلك أبدا، ولذلك، سارعت سفارة ألمانيا بالرباط إلى نفي علاقات هذه الخلاصات بجهاز الاستخبارات الألمانية، مؤكدة أن الأمر يتعلق بخلاصات لباحثة ألمانية تشتغل لفائدة مركز أبحاث لا علاقة له من قريب أو بعيد بجهاز استخباراتها.

وسواء تعلق الأمر بصحة نسبة هذه الخلاصات إلى الجهاز الاستخباراتي، أم أنه مجرد خلاصات بحثية، فالملاحظة المسجلة على بيان سفارة ألمانيا بالرباط، أنها لم تكتف بنفي صلة الدولة الألمانية بهذا التقرير، وإنما ذهبت أبعد من ذلك، فحاولت استثمار هذه المناسبة للمطالبة بعودة العلاقات مع الرباط إلى طبيعتها، مما يؤكد إصرار الرباط على التزام موقفها الصارم في التعامل مع برلين، ويؤكد من جهة ثانية، الحرج الذي يوجد فيه الموقف الألماني، وضيق الخيارات المتاحة أمامه لإرغام المغرب على تغيير موقفه.

الملفت في هذه التطورات، أن دبلوماسية الرباط، لم تغفل الشهر الماضي الدور الإيطالي، لاسيما بعد زيارة الرئيس الإيطالي للجزائر بداية شهر نوفمبر الماضي، ولجوء الإعلام الجزائري إلى تحريف تصريحاته، والزعم بأن روما يؤيد حق تقرير المصير للشعب الصحراوي، فقد سارعت الخارجية المغربية إلى إنتاج ديناميتها المعاكسة، فصدر في بداية الأسبوع الثاني من نوفمبر الماضي، بيان مشترك بين الخارجية المغربية ونظيرتها الإيطالية، في أعقاب محادثات ثنائية لوزيري خارجية البلدين، أقرت فيه إيطاليا قرت فيه إيبالجهود التي يبذلها المغرب بالجهود التي يبذلها المغرب لتسوية ملف الصحراء، ووصفتها بكونها «جادة وذات مصداقية».

ملخص هذه التطورات التي تهم السياسة الخارجية المغربية، أن الرباط، لحد الآن، تضمن بأسلوبها استمرار خطين متوازيين بنفس الدرجة من القوة، خط الضغط على مدريد وبرلين من أجل تغيير موقفهما اتجاه الصحراء، وخط تنويع شركائها والبحث عن بدائل تعوضها في حال بلغت العلاقات إلى مستوى أكبر من التصعيد معهما، مع امتلاك أوراق جديدة في التحالفات، تمكنها من تعطيل الضغط الأوروبي من جهة، ومن جهة ثانية، إبطال مفعول الورقة العسكرية التي قد تلجأ إليها مدريد كما فعلت في السابق في جزيرة ليلي المغربية سنة 2002.

القدس العربي