تشترك المجلة الحائطية و الفيس بوك، في خصائص متعددة أبرزها كتابة كل منهما على الحائط، وإن كان حائط المجلة عالم مادي فيزيقي، وحائط الفيس بوك افتراضي رقمي. ورغم اختلاف أزمنة نشأتهما ودعاماتهما، فإن الحائطين يتقاسمان معا خاصية «الفعل التواصلي» الذي لا يقوم على تبادل المعلومات، وإنما يقوم بفعل التأويل لما يحدث ويستطيع بلورة القواعد والآليات التي تسمح بالعيش الجماعي حسب عالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس أبرز منظري مدرسة فرانكفورت النقدية .
ليس الغرض، من “حفريات صحفية من المجلة الحائطية إلى حائط الفايس” عنوان الكتاب الصادر في أواخر سنة  2022، تفكيك «لغة» المجلة والفيس بوك، ارتباطا بسياقاتهما التاريخية والاجتماعية، ولكن إثارة الانتباه إلى أن المجلة الحائطية رغم محدودية إمكانياتها، كانت إحدى آليات التواصل والإخبار والتثقيف والترفيه في «الزمن الحائطي والورقي» والكتابة بـ «الحبر وخط اليد» لجمعيات ومنظمات الشباب والطفولة وكذلك داخل المؤسسات التعليمية، تستعملها لنشر مواقفها والتعريف بأنشطتها الثقافية والتربوية، وبمواقفه، والانفتاح على أعضائها و ” الرأي العام “.

كانت المجلة الحائطية، وسيلة تواصل ثقافي وتربوي واعلامي، قبل الانتشار الواسع للشبكة العنكبوتية التي دشنت منذ أواسط التسعينات من القرن الماضي لعصر «الزمن الرقمي»، الذي أنهى بدخول وسائط التواصل الاجتماعي واحتلاله بوسائله المتطورة، للفضاء العام، مرحلة وفتح أخرى بأفق جديد مغاير  في مجال التواصل، ومعه صناعة الرأي العام.

حائطان واقعي وافتراضي

فكما هو شأن « فيس بوك »، الذى أضحى « همزة التواصل»  بين الأفراد والجماعات في ظل السماوات المفتوحة، فإن المجلة الحائطية، في ” زمانها الذهبي” كانت فضاء مفتوحا للكتابة وتبادل الرأي والتعريف بالإبداع وللحوار والنقاش حول قضايا وطنية ودولية كانت تستأثر في إبانها باهتمامات أصحابها وروادها، وتنقل جدالاتهم منها إنشغالاتهم التربوية والثقافية والفنية والاجتماعية والبيئية، وهي سجالات التي كانت تحتضنها وتعكسها المجلة الحائطية استنادا على « خط تحريري منسجم » في الغالب مع أهداف وتوجهات أقلام الهيئات الناشرة لها.

وعلى الصعيد التنظيمي، يتولى تصنيف مواد المجلة الحائطية، وتحرير زواياها «كتاب مهنيون قارون» غالبا ما يكونون أعضاء  باللجنة الثقافية للجمعية، ويقومون بمهام الإشراف أيضا على إخراجها في قالب فني بديع، بهدف استمالة القراء القارين، والمفترضين.
كانت المجلة الحائطية التي يعود لها الفضل في تكوين رموز سياسية وثقافية وتربوية، لها مكانتها حاليا في ميادين الإبداع والفكر والثقافة والعلوم والسياسة، «ناطقا رسميا» لناشريها، وفضاء للتعبير عن الآراء حتى المتعارضة منها ووسيلة للتنشيط الفكري التربوي والثقافي، والتعريف بالثقافات الأخرى عربية ودولية، فضلا عن القيام بمهام التحسيس بالقضايا الوطنية والقومية خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي كانت تحتل مكانة متميزة، وبفضل ذلك كانت تحظى تطوراتها بزاوية قارة للتعريف بنضال الشعب الفلسطيني ومقاومته الثقافية والسياسية والمسلحة، وصمود أبنائه ضد الاحتلال الإسرائيلي.
المجلة الحائطية، كانت لا تقتصر على فضاءات دور الشباب، والمخيمات الصيفية فقط، لكن كانت أيضا حاضرة بالمؤسسات التعليمية الابتدائية والثانوية والجامعية التي كانت « مجالا حيويا» للجمعيات لـ «استقطاب» لأعضاء مستقبليين. فهذه المجلة «المعلقة» كانت لا تتطلب إمكانيات مادية، اللهم حاملا خشبيا أو ورقيا، تتكئ عليهما، وتوضع هذه المجلة غالبا على حائط إما ببهو دار الشباب، أو بمقار الجمعيات والنوادي، في حين تكون إما داخل الفصل الدراسي بالمؤسسات التعليمية، فكان يطلق عليها حينذاك، «مجلة القسم»، أو خارج الفصل فتسمى ” مجلة المدرسة”.

في زمن الإنترنيت

تجربة المجلات الحائطية، كما عاشها جيل السبعينات والثمانيات، كانت متنوعة، باختلاف وتنوع الجمعيات، فمثلا في ثمانينات القرن الماضي، نضجت مبادرة خلق المجلة الحائطية – في غياب أدوات نشر أخرى – بفرع الرباط التابع للجمعية المغربية لتربية الشبيبة (AMEJ)، وتمكنت في ظرف وجيز من أن تصبح نافذة إضافية مشرعة لاستكمال النقاشات الجارية داخل هذه الجمعية التي تأسست سنة 1957.

بدأت المجلة الحائطية بتبويبات أولى تتضمن مقالات وأخبارا تربوية خاصة بعالم الطفولة نظريا وتطبيقيا، وأخرى ثقافية متصلة أساسا بالشأن الفلسطيني، وفكرية مرتبطة بمناقشة بعض المبادئ الإنسانية العامة وصلتها بأسس وأفكار الجمعية وشعاراتها خاصة منها المتعلقة بـ « مبدئية، تطوعية، تقدمية، مستقلة» وإبداعية من خلال بواكير قصائد شعرية وقصصية وأناشيد، إلى جانب محاولات في الرسم والتشكيل.

فعلى الرغم من مواصلة المجلة الحائطية صمودها خاصة بدور الشباب والمخيمات والمؤسسات التعليمية «وسط أعاصير» الرقمنة، فإن إغراء وسائط الاتصال، أرخى بظلاله الكثيفة في زمن التواصل والإعلام الرقمي، على فئة الشباب التي أشاحت بوجوهها عن سبورة هذه المجلة المعلقة، وانغمست في الإبحار في شبكة الإنترنيت الذي بلغ عدد المشتركين به 26.2 مليون عند نهاية شتنبر الماضي، يوازيه أزيد من هذا الرقم عدد صفحات فيس بوك بالمغرب فقط، 80 في المائة منها تعود للشباب، مما جعل المجلة الحائطية، تظل مجرد نوستالجيا لجيل و”قصة موت غير معلن”.

وبفضل التوسع الهائل والسريع لتقنيات الاتصال والتواصل، تحول الفضاء العمومي، إلى فضاء إعلامي بامتياز، وأضحت الصحافة تشكل داخله النموذج الطاغي الذي يمارس هيمنة مباشرة على انتاج المعنى، وعلى مختلف التمثلات. ووعلى المستوى الصحافي، “خلخلت”  الانترنيت الممارسات المهنية للصحافيين أنفسهم، وأصبحت وسائط التواصل، تمس حتى بالحميمية والهوية الشخصية، وتغير من محيط شبكات العلاقات الاجتماعية.

تحرر وهيمنة

غير أنه إذا كانت التكنولوجيات الرقمية، لم تضع حدا لعدم المساواة على مستوى  الاستخدام، ولم تخفف من سوء التفاهم بين البشر، ومن النزاعات. لكنها بالمقابل وفرت ولوجا، غير محدود الى المعارف، ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة، لكن وإن كانت هذه التكنولوجيات الحديثة وسيلة للتحرر، فإنها أيضا وسيلة للهيمنة.

يتضمن كتاب “حفريات صحفية من المجلة الحائطية إلى حائط الفايس” ما يناهز 100 نصا، ويحاول بصفة عامة، البرهنة على التفاعل القائم ما بين الحقل الصحافي والحقل السياسي وعلاقتهما معا مع الفضاء العام بتمثلاته المتعددة، مع محاولة الكشف عن خلفيات التنافر والتوتر بين كل من الفاعل السياسي والجسم الصحفي المهني.

 

البعد المهيمن: التربية والإعلام

لقد انتبه ادريس اليزمي رئيس مجلس الجالية المغربية بالخارج، الرئيس السباق للمجلس الوطني لحقوق الانسان كثيرا وبحرفيته الثقافية والإبداعية والحقوقية المشهود له بها، حينما قال في تقديم كتاب” الحفريات..” : ” سنخطئ إذا اعتقدنا أن التاريخ هو البعد المهيمن في الكتاب، فهذه المقالات مسكونة أيضا بهاجس آخر، يقارب الهوس، هو مصير المهنة؟ وكيف تمارس اليوم، في المغرب وفي منطقتنا وفي العالم؟ ما هي السياقات والظروف السياسية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي يشتغل فيها الصحافيون؟ وماذا عن الاستقلالية والحياد وأخلاقيات المهنة؟ في ظل الثورة الرقمية.

فالكاتب يقفُ على حُدودِ التّمـاس بين الإعلام والمجتمع في تمظهراتِه السياسيّة والاجتماعية والثقافية والتربوية، وهو ما يتيحُ له مُزاوجة النّظر في التأثيرات المتبادلة بينهُما ورصد التفاعلات التي يُحدثُها كل طرفٍ في الآخر، كما ذهب إليه رئيس بيت الشعر بالمغرب مراد القادري الذي أوضح لذلك فإنّ هذه الحفرياتِ الصحفية، جاءت بطعم التاريخ وهاجِس الحلم والتغيير… جاء مِدادُها من محبرة المربّي والحقوقي محمد الحيحي ( 1928- 1998 )، والإعلامي والسياسي محمد العربي المساري ( 1936- 2015 )، فنجحت في أنْ تؤكّد التلازمَ بين التربية والإعلام في اللحظة التي ينْصهران فيها من أجْل مجتمع الحرية والمعرفة.

وإن كان الكتاب، يتضمن مواضيع متنوعة، لكن قاسمها المشترك – كما جاء في مستهل الكتاب الصادر بدعم من الجامعة الوطنية للتخييم الذي وقعه محمد القرطيطي رئيس الجامعة السابق – رهان جمال المحافظ، أحد مؤطري المخيمات الصيفية والتكوين الجمعوي على التربية وترسيخ قيم المواطنة سواء كان ذلك في داخل منظمات المجتمع المدني التي كان أحد قيادي هيئاتها التربوية التاريخية أو في مجال الاعلام الذي راكم فيه تجربة متميزة .

جمال المحافظ

  • استهلال في اللقاء المفتوح بالمقهى الثقافي ميلانو بالرباط، حول كتاب ” حفريات صحفية من المجلة الحائطية إلى حائط الفايس بوك” المنظم من لدن شبكة المقاهي الثقافية.