يعدّ التوظيف أو التشغيل من أهم حقوق الإنسان، بل هو وسيلة أساسية من وسائل حفظ كرامته وتحقيق مستواه المعيشي واستقراره العائلي وارتقائه الاجتماعي.

والدستور المغربي لسنة 2011 قد أولى أهمية قصوى للتشغيل والتوظيف حيث نص الفصل الـ31 منه على ما يلي: “تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في:

– الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل أو في التشغيل الذاتي؛

– ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق”.

والوظيفة العمومية في التجارب المقارنة يطبعها نظامان: النظام المفتوح الذي تبنّته الولايات المتحدة الأمريكية، ويتميز بعدم الاستقرار والدوام ويتيح لجميع المواطنين شغل الوظائف العمومية؛

والنظام المغلق أو نظام السلك المتبنّى من لدن أوروبا، ويقوم على استمرارية ودائمية الوظيفة؛ وهو ما يمنح الموظف الاستقرار والطمأنينة على مستقبل عمله.

وينهل نظام الوظيفة العمومية في المغرب من النموذج الأوروبي وخصوصا الفرنسي، حيث استمد النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية بالمغرب الصادر بتاريخ 24 فبراير 1958 أحكامه من نظام الوظيفة العمومية الفرنسي لسنة 1946. بمعنى أن التوظيف في المغرب يتسم بطابع الديمومة والاستقرار الوظيفي، ويُستشف ذلك بشكل جليّ من أحكام هذا النظام الأساسي الذي جعل الموظف في علاقة قانونية ونظامية مع الإدارة التي يعمل بها؛ غير أنّه في ظل الاختلالات التي أفرزتها تلك العلاقة النظامية بين الموظف والإدارة في بعض القطاعات، ومنها قطاع التربية الوطنية، وما نجم عنها من إشكالات عميقة وضعت المرفق العمومي في قفص الاتهام، نظرا لرداءة الخدمات العمومية المقدمة وضعف الإنتاجية والمردودية والروتين وتغييب الضمير المهني وعدم إنجاز المهام المنوطة بالجدية اللازمة… جعلت الدولة تُعيد النظر في أسلوب التوظيف لصالح التشغيل بالتعاقد.

والتوظيف بالتعاقد يدخل في سياق الإصلاح الإداري المنشود، من خلال من جهة المساهمة في ترسيخ التدبير بالأهداف والنتائج بتحديد دقيق للأهداف المرجوة والمهام المنوطة بمؤشرات واضحة ، ومن جهة أخرى تمكين الإدارة من سد العجز الحاصل في مواردها البشرية، وبالتالي توفير فرص شغل جديدة للحد من البطالة التي تُهدد السلم الاجتماعي.

وباعتبار المؤسسة العمومية تعد شكلا من أشكال اللامركزية الإدارية، تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري وتخضع لوصاية السلطة المركزية. ويُمكنّها هذا الاستقلال من الحصول على موارد بشرية لتحقيق الغاية من إنشائها، وقد تخضع هذه الموارد لأنظمة مختلفة حسب طبيعة العلاقة التي تربطها بالمرفق العام، ومعنى ذلك قد تكون في وضعية نظامية وتخضع لمقتضيات النظام الأساس للوظيفة العمومية أو تكون في وضعية تعاقدية تخضع لقانون الشغل ويكون المبدأ السائد هو أنّ العقد هو شريعة المتعاقدين.

وبالرجوع إلى المادة الـ1 من القانون 07.00 القاضي بإحداث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، كما وقع تغييره وتتميمه بالقانون 71.15 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.16.04 بتاريخ 15 ربيع الاخر 1437(26 يناير 2016)؛ فإن الأكاديميات الجهوية مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري وتخضع لوصاية وزارة التربية الوطنية، ويتم تعيين مديرها بمرسوم حكومي طبقا للقانون التنظيمي 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا كما وقع تعديله بمقتضى القانون التنظيمي 23.16 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف بتاريخ 10 غشت 2016.

وعلى نهج بعض المؤسسات العمومية، أقدمت الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين على إرساء منظور التشغيل بالتعاقد في نهجها التوظيفي. وعملا بأحكام المقرر المشترك لوزير التربية الوطنية والتكوين المهني ووزير الاقتصاد والمالية رقم 7259 بتاريخ 7 أكتوبر 2016 لتأطير عقود التشغيل، عملت هذه الأكاديميات بمختلف جهات المملكة على توظيف أساتذة بموجب عقود، وعُهد للمديريات الإقليمية لوزارة التربية الوطنية بتنظيم هذه المباراة وكذا تعيين المتعاقدين بعد التكوين في المراكز الجهوية للتربية والتكوين.

وقد اختارت الأكاديميات الجهوية أسلوب الإذعان للتعاقد مع الأساتذة والأستاذات، وعقد الإذعان هو الذي يضطر فيه أحد طرفي العقد (الأساتذة والأستاذات) إلى قبوله جملة دون مفاوضة أو تغيير من جانبه في شروط العقد، وقد ذهبت أغلب التشريعات المقارنة إلى تغيير الشروط الواردة في عقود الإذعان، التي تتسم بالغموض لصالح الطرف المُذعن، كما للقاضي سلطة تعديل الشروط التعسفية أو اعفاء الطرف المُذعن من الالتزامات الناتجة عن العقد والتي تحمل طابعا تعسفيا، وهو ما يقتضي من المشرع المغربي الذهاب في هذا السياق.

وقد تضمن هذا العقد مجموعة من الشروط والبنود تتعلق بحقوق وواجبات المتعاقدين مع الأكاديمية، وهي عقود لا توفر الضمانات الكافية لحمايتهم، على عكس الموظفين يتمتعون بحماية قانونية قوية كرسها النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، لاسيما في مسطرة التأديب جراء الأخطاء المهنية. كما يُشكل هذا العقد صيغة قانونية تؤطر العلاقة التعاقدية بين الأكاديمية الجهوية والأساتذة المتعاقدين على امتداد مدة العقد المحددة في سنتين، غير أنّه أسس لعلاقة غير متكافئة تقوي الإحساس بعدم الاستقرار، لا سيما الجدل الذي أثاره بمنح الأكاديميات (المُشغِل) صلاحيات كثيرة في فسخ العقد وإنهائه مع الأساتذة (الأجراء).

ويطرح إنهاء عقد الشغل بالإرادة المنفردة لأحد طرفيه، خصوصا المُشغل (الأكاديميات)، عدة مشاكل قانونية، يأتي على رأسها مشروعية أو عدم مشروعية هذا الفسخ؛ فالطرد المُتخذ ضد الأجير بارتكابه خطأ جسيما يعتبر طردا مشروعا يفقد على إثره الضمانات والامتيازات المخولة له، أما إذا كان طرده تعسفيا فالمُشغل لا يجوز له التعسف في استعمال هذا الحق.

والمشرع المغربي بمقتضى القانون رقم 65.99 الصادر في شأن مدونة الشغل، أحاط الأجير الذي تم فصله تعسفيا بمجموعة من الضمانات وهي:

فالمادة الـ38 من المدونة تُلزم المُشغل باحترام التدرج في العقوبات أثناء ممارسة السلطة التأديبية، ويعنى ذلك أنه في حالة الخطأ غير الجسيم تُتخذ عقوبة الإنذار أولا لثني الأجير عن الخطأ، وفي حالة التمادي تُتخذ عقوبة التوبيخ ثانيا، وإذا ما كرر الفعل تُتخذ عقوبة التوبيخ الثاني أو التوقيف لمدة 8 أيام، وفي حالة العود تُتخذ رابعا عقوبة التوبيخ الثالث أو النقل إلى مصلحة أو مؤسسة أخرى، وبعد استنفاد هذه العقوبات داخل سنة دون جدوى، يمكن آنذاك تطبيق عقوبة الفصل.

وبمقتضى المادة الـ62 يجب قبل فصل الأجير أن تتاح له فرصة الدفاع عن نفسه بالاستماع إليه من طرف المشغل (الأكاديميات) أو من ينوب عنه بحضور مندوب الأجراء أو الممثل النقابي الذي يختاره الأجير بنفسه وذلك داخل أجل لا يتعدى 8 أيام ابتداء من التاريخ الذي يتبين فيه ارتكاب الفعل المنسوب إليه، يحرر محضر في الموضوع يوقعه الطرفان وتسلم نسخه منه إلى الأجير، أما إذا رفض أحد الطرفين إجراء أو إتمام المسطرة، يتم اللجوء إلى مفتش الشغل.

كما أن العقوبات التدريجية المتخذة أو عقوبة الفصل يجب أن يتم تبليغها إلى الأجير يدا بيد مقابل وصل، أو بواسطة رسالة مضمونة مع اشعار بالتوصل داخل أجل 48 ساعة من تاريخ اتخاذ العقوبة، ويتم توجيه نسخة من مقرر الفصل إلى مفتش الشغل تتضمن الأسباب المبررة لاتخاذ هذه العقوبة.

ويمكن للطرف المتضرر في حالة إنهاء العقد بشكل تعسفي المطالبة بالتعويض عن الضرر، كما يمكنه اللجوء إلى مسطرة الصلح التمهيدي لأجل الرجوع إلى عمله، أما إذا تعذر التوصل إلى الصلح، يحق له رفع دعوى أمام المحكمة المختصة (القضاء العادي) التي لها أن تحكم في حالة ثبوت الفصل التعسفي، إمّا بالإرجاع إلى العمل أو الحصول على تعويض عن الضرر، يُحدد مبلغه على أساس أجر شهر ونصف الشهر عن كل سنة عمل أو جزء من السنة على أن لا يتعدى سقف 36 شهرا؛ غير أن الحكم بالإرجاع إلى العمل، إن كان سهلا نظريا فإنه صعب من ناحية التنفيذ.

لا تتوقف حماية الأجراء فقط عند هذه الضمانات، بل أن القضاء يلعب دورا محوريا في ذلك من خلال الرقابة في ثبات وجود الخطأ وكذا تقدير جسامته وملاءمة تلك العقوبة التأديبية للخطأ المرتكب. لقد حاول المشرع المغربي إذن توفير حماية قوية للأجراء موضوع الفصل التعسفي من خلال مدونة الشغل، باعتبارهم الطرف الضعيف في العلاقة الشغلية.

فإذا كانت هذه أبرز الضمانات التي جاء بها قانون الشغل المغربي لحماية الأجير من الطرد التعسفي، فإنه بالمقابل النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية هو الأخر أحاط الموظف بمجموعة من الضمانات في حالة اخلاله بواجباته المهنية: الباب الخامس( الفصول 65 إلى 75 مكرر) يستحيل معها الاستغناء على الموظف لمجرد خطأ مهني بسيط، وحتى لو تم اتخاذ قرار تأديبي في الحق الموظف المُخل بواجباته، فإن القضاء الإداري يبسط سلطته على مراقبة تلك القرارات الإدارية التأديبية التي تفتقد إلى المشروعية.

وبالرجوع إلى الحالات التي تم فيها فسخ عقود التوظيف في بعض المديريات: زاكورة وبولمان مثلا بالإرادة المنفردة للمشغل (الأكاديميات)، يتضح أن هذه الأخيرة لم تحترم الضمانات التي أقرتها النصوص التشريعية سالفة الذكر، سواء التي تضمنها النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية أو تلك التي جاءت بها مدونة الشغل؛ وهو ما يستدعي من الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين تحديد الوضعية القانونية للأساتذة الموظفين بموجب عقود.

إنّ الباحثين في الشأن الإداري لا يختلفون في الوضعية القانونية للأساتذة الموظفين بموجب عقود، فهم مستخدمون أو أجراء بمفهوم قانون الشغل المغربي، تربطهم علاقة شغل بالأكاديميات محددة في الزمان ولا يمكن أن يتم إدماجهم في سلك الوظيفة العمومية، وبتالي ترسيمهم. على الرغم من أنّ هذه العقود حاولت ولو نظريا إيجاد ضمانات تجعل المتعاقدين يحسون بالاطمئنان (الموظف والمتعاقد لهما نفس أجرة، المتعاقد يتمتع بمختلف الرخص، يمكن للمتعاقد من الاستفادة من التغطية الصحية…)، فإن مساوئ نظام التعاقد برزت عمليا في أول امتحان له بعدما تم فسخ عقود التوظيف لمجرد أخطاء مهنية يمكن اللجوء فيها إلى عقوبات أقل ضررا وأكثر نفعا للسلم الاجتماعي.

في اعتقادي أن التوظيف بالتعاقد لا يُشكل اليوم ضرورة، بالنظر إلى الضمانات الهشة التي يتمتع بها الأجير، مقابل ضمانات قوية يتوفر عليها الموظف. ومن ثمّ، فضرورة التوظيف بالتعاقد تقتضي إعادة النظر في الإطار القانوني المنظم للوظيفة العمومية بشكل يجعل الموظف، سواء المرسم أو المتعاقد، لا ينظر إلى وضعيته الإدارية بقدر ما ينظر إلى أجرته القائمة على المردودية.

*دكتور في العلوم القانونية