سعيد كان

بمحطة القطار القنيطرة، كنت واقفا في الصف منتظرا دوري للحصول على تذكرة السفر، استخدامي اليومي للقطار، يجعلني أقف على الكثير من المشاهد التي تثير غضبي، ومعه المدة، تعودت على ضبط أعصابي وعدم التجاوببتشنج مع كل مشهد أراه أمامي، ولكن…

ذلك الصباح فقدت كل طاقتي على الصبر، حين قفزت سيدة على الصف وتجاوزتني لتسبق إلى الحصول على التذكرة دون أن تعتذر أو تكترث، عندها تمتمت في صمت ممتعضا من المشهد، ولكنني كغيري من الواقفين لم أتجاوب وتركت الأمر يمر ببساطة، وحينها قرر أحد الأذكياء أن يجرب دوره في تجاوز الصف، لكن طاقة صبري ذاك الصباح كانت قد نفذت، فقمت بنهره كي يعود إلى مكانه، وتجاوب معي بعض الرجال والنساء في الصف، لكن الرجل رفع عقيرته وبدئ في الصراخ وأطلق سمفونية من المظلومية واتهمنا بالـ”عياقة” وأننا نتصور أنفسنا في أوروباـ وأننا نسينا أننا مجرد مغاربة، وأننا نمارس الـ”حگرة” و,و,و…

مثل هذه الحالات قد تتكرر في كل صف وفي كل مكان بالبلاد يتطلب تنظيم زمرة أو حشد من الناس، وربما يكون رد فعلنا الأول لفهم الأمر هو جلد الذات ورد الأمر إلى حالة التخلف الجماعي الذي نعيشه ونساهم فيه جميعا بأقدار مختلفة، أو أن نقول بأننا عالم ثالث يتقدم في الأشكال ولكن الجوهر يبقى مهترئا مثخنا بالأعطاب.
المسألة في حقيقتها مرتبطة بإشكال أعمق من مجرد سوء تصرف في الفضاءات العمومية، ومسؤوليتها لا تقع على الأفراد فقط، ولكنها شأن جماعي مرتبط بشكل وثيق مع التعاقد الاجتماعي بيننا كبشر نشترك نفس الرقعة الجغرافية، ونتنفس هواء نفس الوطن

حين كنا صغارا، تعودنا كل صباح أن نقف أمام المدرسة في صف واحد أو صفين، ويصيح فينا المعلم من رأس الصف “يَدٌ عَلَى الكَتِفْ” وبأيادينا الممتدة لأكتاف التلاميذ أمامنا ننسق الصف، وندخل منظمين إلى المدرسة، كانت تلك هي نافذتنا الأولى على “التربية المدنية”،المفهوم المفقود اليوم، والذي يسبب غيابه كل هذه الفوضى في فضاءاتنا العمومية.
الأساسيات التي يفترض أن نتعلمها في المدارس، ليست فقط من أجل تنظيم الدخول إلى الفصول، أو للوقوف لتحية العلم، ولكنها دروس أساسية لحسن التعامل مع حركة الحشود، غير أن هذا المفهوم يبدوا أنه لم يتجاوز أسوار المدرسة، ولم يخرج إلى غيرها من الفضاءات ليترجم لانضباط جماعي لقواعد السلوك.

لو لاحظتم، فإننا فعلا نفتقد لهذا التنظيم، فكثير من مظاهر الاكتظاظ في الشوارع والأسواق، ليس سببها كثرة الناس، ولكن غياب التربية المدنية التي تمنحنا أساليب السير بشكل منظم في الفضاءات المشتركة، وغيابها هو الذي يجعل مساحة قابلة لتحرك مئة شخص، تكتظ حين يدخلها نصف هذا العدد
تخيلوا معي مثلا منظر أربع أصدقاء يسيرون في الشارع العام، الكتف على الكتف، في خط أفقي يخنق الشارع، ويجعل غيرهم من الناس ينزلون من رصيف المارة إلى الشارع مع السيارات، وهكذا يتحول الشارع إلى مساحة مكتظة بعدد قليل من الناس، والمناظر من هذا النوع كثيرة ومتعددة، خصوصا حين تغيب التجهيزات والبنيات التحتية التي تساعد على تحرك الناس كحواجز الأرصفة وممرات الأشخاص في وضعية إعاقة “الولوجيات” وعلامات التشوير الموجهة لمستعملي الفضاءات العمومية من الراجلين.

مسؤولية الفرد هنا حاضرة ولا نقاش فيها، لكن مسؤولية الجماعات المحلية ومجالس المدن أكبر في هذا الباب، ناهيك عن مسؤولية الحكومة في وضع سياسة لغرس هذا المفهوم لدى عموم الناس سواء عبر المدارس ومناهج التربية والتكوين أو عبر وسائل الإعلام العمومي، ثم إن هناك مسؤولية المجتمع المدني، الذي من أدواره التوعية والتحسيس.
الموضوع قد يبدوا بسيطا، ولكنه في العمق معقد،فاستمرار غياب هذه الثقافة خصوصا في المدن الكبرى، هو سبب من أسباب ضياع الكثير من الجهد والموارد والزمن، والحاجة للتربية المدنية تظهر أكثر عندما يتعلق الأمر بالكوارث الطبيعية أو بالحالات الوبائية كالتي واجهتنا وتواجهنا اليوم
فمثلا، هل يبدوا لكم أمرا معقولا أننا أضعنا في بداية مواجهة جائحة كورونا جهدا ووقتا ومواردا فقط لنذكر الناس بالأسلوب الصحيح لاستعمال صابون اليد؟
أليس من المفترض أن نتعلم هذه الأساسيات في المدرسة أو البيت أو دار الشباب؟

التباعد الجسدي، تجنب المصافحة، والسلوكيات الاحترازية من انتشار الوباء، ليست أشياء ظهرت فقط مع أزمة كوفيد 19، هي سلوكيات صحية قديمة يتم اتخاذها كلما كان هناك خطر انتشار فيروس أو وباء، ولكن هناك من لم يسمع بها إلا مطلع سنة 2020، بل إن ارتداء الكمامات في بداية الأزمة كان مدعاة للسخرية والتندر، ولي اليقين أن المئات إن لم أقل الآلاف، سقطوا ضحايا الفيروس، فقط لأنهم لا يعرفون قواعد السلوك في مواجهة الوباء، ولم يقل لهم أحد شيئا عن التربية المدنية
بغض النظر عن الجائحة، هناك دائما سيناريوهات محتملة لوقوع كوارث طبيعية أو حرائق أو غيرها من الأحداث التي تفترض أسلوبا معينا من سلوك الحشود للحد من الخسائر في الأرواح، ولا أدل على ذلك من يافطات موجودة في كل المدن، وفي كل المساحات التجارية الكبرى، وغيرها من الأمكنة التي تضم أعدادا كبيرة من الناس تحمل عبارة “نقطة التجمع”، هذه اليافطات أغلب الناس يمر بجانبها دون أن يعرف ما دورها وما الذي ترمز إليه، فيما هي واحدة من أساليب حفظ السلامة الجماعية، تتطلب من كل الموجودين في المكان التوجه إليها في حالة حدوث حريق أو زلزال أو أي كارثة، لأنها توضع في أماكن تتوفر فيها معايير خاصة، من درجات الأمان والقدرة على ضم أكبر عدد من الناس، فهي منطقة الأمان في خطط الطوارئ
لكن معايير السلامة هذه، لا يمكن أن تكون فعالة إن لم يعرف الناس بوجودها أساسا، إضافة إلى غياب المعرفة بخصوص خطط الطوارئ، المفروض أن يكون في كل المؤسسات والواجهات الكبرىمسؤول عن السلامة، يشرف على تسيير الحشود بعد لجوؤهاإلى نقط التجمع، ولكنني أتسائل هل هذه المناصب موجودة أساسا في مؤسساتنا؟

لا، بل إن مؤسساتنا وفضاءاتنا العمومية غالبا ما تفتقر حتى إلى إشارات التشوير التي تسهل تحرك الناس في الأوضاع العادية، ناهيك عن وقت وقوع الكوارث، فمثلا حين نشتكي من أن هناك أناسا لا يحترمون الصف، أتسائل هل مؤسساتنا تضع يافطات أو إعلانات تحث الناس على احترام أدوارهم والتنبيه للسلوكيات الصحيحة المطلوبة؟
قد أجزم أن غياب مثل هذه التجهيزات البسيطة، أو الأعوان الذين يسهرون على حسن السير داخل المؤسسات، قد تكون سببا في كوارث، فعدم تنظيم أي حشد، قد يتحول إلى زحاممميت، ناهيك عن ضياع الوقت والجهد، ولكم أن تنظروا مثلا لطريقة دخول وخروج الجماهير من وإلى الملاعب لتأخذوا فكرة عما أقول
هذه الأشياء التي أطرحها هنا، من المفروض أن تكون متجاوزة في عصر التكنولوجيا، فالتربية المدنية بذاتها تتطور، فاليوم يحتاج الناس – من أجل الوصول إلى عدد من الخدمات – إلى التعامل مع شاشات إلكترونية، مثلا في بعض المطاعم، أو في بعض محطات القطار، أو في المطارات، وهي وسائل وضعت لتسهيل تنظيم الجهد والوقت، والتقليل من هوامش الخطء التي تحدثفي التعامل البشري المباشر
اليوم نحتاج إلى تربية مدنية جديدة تلائم العصر ووسائله، نحتاج لمحو أمية من جيل جديد، والبناء من القاعدة، وهو بالطبع بناء لا يمكن أن يتم دون الحديث عن المدرسة والمنظومة التربوية، وإلا فإن هناك أشياء يمكن فعلها اليوم بشكل آني، تتمثل في التوعية والتحسيس عبر وسائل غير تقليدية، وباستخدام وسائط التواصل الحديثة.

دعوني في الختام أعود بكم إلى واقعة أليمة تلخص كل شيء…
سنة 2017، قتل 15 شخصا في مأساة وقعت أثناء توزيع مساعدات غذائية في منطقة سيدي بولعلام بإقليم الصويرة، حيث تدافعت حشود من السيدات فقتل منهم عدد تحت الأرجل، وأصيب آخرون إصابات بليغة، والسبب الظاهر في تلك المأساة، هو الازدحام والتدافع
حينها وجهت الاتهامات للجمعية الخيرية التي نظمت المساعدات، ووجهت كذلك للسلطات المحلية، ولكن لا أحد انتبه إلى الحاجة إلى تربية مدنية كان من الممكن أن تحد من الضحايا، أو ألا تسقط ذاك اليوم أية روح، لو كان المتدافعون يحسنون التصرف في حالات الاكتظاظ
تنظيم الحشود علم قائم الذات اشتغل عليه علماء، ووصفوا سلوكيات بسيطة للتعامل معه، وهناك دول تأخذ بهذه التوصيات على محمل الجد وتنقلها إلى الناس وتضع لها الآليات لتطبيقها متى استدعى الأمر ذلك، ونحن اليوم مقبلون على نموذج تنموي جديد، لا أراه مكتملا دون غرس هذه الثقافة، وتحويل الفضاءات المشتركة إلى مجالات أكثر أمانا، وأقل ازدحاما ومستعدة للتعامل مع أي طارئ
هذه أيها السادة أيتها السيدات، إحدى مداخل بناء الإنسان، وتنظيم المجتمع، والأمر ليس مجرد رفاهية تتمتع بها الدول المتقدمة، إنها وسائل أساسية لحماية الحق في العيش الكريم، والحق في الحياة.