بقلم إدريس الأندلسي..بعض رواتب القطاع العام تعد بعشرات الملايين

كنت كأقراني فرحين، مبتهجين و مسرورين بأول راتب تقاضيناه و نحن من المصنفين في السلم الأعلى 11 في الوظيفة العمومية. كان المبلغ آنذاك لا يتجاوز 2600 درهما. كان هذا في سنة 1983 ، وكان كراء شقة في الأحياء القريبة من الوزارات يتجاوز ألف درهم بقليل. زاد حظنا و تفاؤلنا حين علمنا أن وزارة المالية تعطينا، كل ستة أشهر، منحة تزيد من قدرتنا الشرائية دون أن تمكننا من الهروب من الهشاشة. و كان هذا الأمر يهم كل النخب التي أنهت دراستها و دخلت في سلك المهندسين و الأطباء و البياطرة و أساتذة التعليم العالي.
كنا نرضى بالدخل المادي ، و نتعامل معه بكثير من الفلسفة و التقشف و الرضى بالقليل من متع الدنيا. دخلنا إلى مجال العمل بصعوبة من خلال مباريات صعبة كانت نسبة النجاح فيها لا تتجاوز 5%. ويمكن للعارفين بمباريات المفتشية العامة للمالية أن يشهدوا بصعوبة امتحانات الدخول إليها، و تلك الأصعب قبل التخرج بعد سنتين من العمل و الدراسة المجهدين و الشاقين.
و مرت هذه المرحلة بإكراهاتها و صعوباتها. و ظهرت إمكانيات أخرى لتوظيف أبناء طبقة نافذة في مؤسسات مالية كرمها حاتمي ، و سيل اموالها متواصل، و الواصلون إليها ذوي حظ و سند و سيطرة على القرار. و يستمر الغدق و الكرم و الاستثناء إلى يومنا دون رقيب. مؤسساتنا المسماة مقاولات عمومية تقدم الهدايا لأبناء أعيان هذا الزمان. و كثير هم المغاربة الذين افنوا عمرهم في تكوين أبنائهم خارج الوطن، و لم يقدروا أن يقنعوهم بالرجوع إلى الوطن خوفا عليهم من الظلم و ” الحكرة” ، و إهانة مستوى تكوينهم من طرف من لا تكوين لهم.
لقد كثرت المقاولات العمومية في بلادي، و كثرت معها أساليب الظلم في تحطيم صاحب الكفاءات أمام من لا كفاءة له. يا ليت مؤسسات بلادي المالية و الإقتصادية تخضع لافتحاص حول مستوى الرواتب مقارنة بمستوى التكوين. وصل أحد المسؤولين ذوي الكفاءة إلى قيادة مؤسسة مالية عمومية. لاحظ أن عدد المديرين المركزيين ذوي ” الرواتب السمينة” يفوق كل المعايير المتعارف عليها دوليا. قيل أن أحد المديرين النافذين الذين لا شهادة حصل عليها إلا الشهادة الابتدائية، كان سببا في ابعاده المفاجئ ، و قد تكون أسباب أخرى قد زادت من سرعة الإبعاد ، و لكن قانون الواقع المعاش يسعد على رفع البعض إلى رتبة تفوق في دخلها راتب الوزير. و حاول المدير السابق أن يعدل، و يحاول المدير الحالي أن يعدل، و لكن سيف معاداة العدل جاهز لقطع الطريق إلى العدل. الأمر كبير و محبط، و سيظل مستوى المردودية المالية للمؤسسات العمومية رهين تكاليفها المرتبطة برواتب خياليه تحول إلى محظوظين و محظوظات. قيل أن مسؤولة عن قطاع إجتماعي في مؤسسة عمومية مالية أشهرت في وجه رئيسها الجديد وثيقة تمكنها لسنوات من دخل يتجاوز دخل الوزراء و رئيسهم. و يظل الصمت و التجاهل سيد الموقف. و يقال ان هذه السيدة التي جالت عواصم العالم لا شهادات عليا لها. و أن مستواها التعليمي يستند إلى شهادة من مؤسسة ” عادية و خاصة”. من أين يأتي هؤلاء بهذه القوة التي تتحدى أي منظومة رقابية. يقال أن الرئيس الجديد للبنك العمومي يحزم حقائبه، كما حزمها سلفه المهندس و المسؤول السابق و الموثوق في تكوينه و حرصه على خدمة الصالح العام.
مؤسسات و مقاولات القطاع العالم أصبحت بقرة حلوب مهداة إلى أولاد و بناة ” سعدات اللي رضا عليه الغزواني”. و هذا الوضع خطير بالنسبة للقطاع العام، و على ثقة الشباب في المؤسسات. الأمر يتطلب رقابة صارمة على صندوق الإيداع و التدبير، و القرض الفلاحي ، و القرض العقاري و السياحي، و على مؤسسات التأمين الفلاحي، و على كل المؤسسات العمومية. وقفت سيدة دون شهادات أمام مديرها تهدده باللجوء إلى القضاء لتستفيد من رواتب سنوات حسب مقتضيات عقد وقع قبل سنتين أو أكثر. و لا يمكن عزل حدث في مؤسسة مالية عمومية عن موقع زوج كان ذا مسؤولية قوية .
و حين تتكلم النقابات و التمثيليات التنسيقية في موضوع الأجور تقابلها أصوات رجالية و نسائية تحصل على أعلى الرواتب الكبرى التي لا يتقاضاها أكبر الأساتذة، و الأطباء، و المهندسين. لقد درست سيدات و أسياد في مدارس عادية جدا ، و قيل أنهم نجحوا، فاستولوا على مناصب برواتب تتجاوز رئيس الحكومة المغربية. قد يخيل للبعض أننا في هلوسات متتالية ، و لكن تفكيك و افتحاص الحسابات و الملفات قد يظهر ما اختلف البعض في قراءته ، و تبريره و استمراره. كيف سنقنع الاطر المغربية المعترف بكفاءاتها بالخارج في ظل أنظمة لا تعترف، في الغالب، إلا بالشبكات العائلية و ذات مصالح مشتركة. تغنى رجال السياسة بالحق في الولوج إلى المعلومة، و تغلبت فئة قليلة لحماية مصالحها فأغلقت، بذكاء ،باب الولوج إلى المعلومة. سنظل نكثر من الكلام على تعويضات البرلماني ” النموذجي و الملتزم بالحضور و العمل ” الذي يحتاج إلى سكن و تنقل و مكتب في دائرته، و ننسى أن وظائف أقل أهمية من مسؤولية التشريع تتجاوز ،الرواتب فيها ،راتب مجموعة من البرلمانيين، و أساتذة التعليم العالي ،و الأطباء المختصين العاملين في القطاع العالم، و المهندسين في كثير من التخصصات و غيرهم ممن قضوا سنوات كثيرة في التكوين و الممارسة. و ستظل أعين الرقيب غائبة، و محاولات الإصلاح تهمة للتخلص ممن يربط الراتب بالكفاءة و الأداء الجيد في المرفق العام. فهل من افتحاص حقيقي أو حتى مهمة استطلاعية برلمانية؟ سأظل متشائما إلى أن تتحرك قافلة الشفافية في كثير من مؤسسات بلادي.

موقع إخباري شامل يعتمد رؤية النموذج التنموي الجديد للمغرب في أفق سنة 2035، كمادة أساسية للمتابعة والإخبار وتعزيز النقاش.

عن المغرب 35

جميع الحقوق محفوظة لموقع المغرب 35 © 2025

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقبل اقرأ المزيد

تم اكتشاف الإعلانات محظورة

يرجى دعمنا عن طريق تعطيل ملحق الإعلانات المحظورة الخاص بك من متصفحاتك لموقعنا على الويب.