محمد القاسمي..تغييب استشارة المحامين في مشروع قانون المسطرة المدنية تهديد للأمن القضائي وهدم صريح للحقوق والحريات
فمشروع قانون المسطرة المدنية الذي تم تمريره بسرعة البرق، يعتبر بمثابة الشريعة أو الولاية العامة لجميع إجراءات الدعوى في جميع القضايا منذ تقييد هذه الدعوى، إلى غاية مرحلة تنفيذها – باستثناء القضايا الجنائية التي تضبطها قواعد الإجراءات الجنائية المغربية من خلال قانون المسطرة – وتكمن خطورة المسطرة المدنية أنه يمكن التفاعل معها دون الحاجة إلى القوانين الفاصلة في الدعوى، كقانون الالتزامات والعقود مثلا، ويستحيل أن يتم اللجوء إلى المحاكم دون الخضوع لضوابط قواعد المسطرة المدنية.
وقانون المسطرة المدنية هو الذي ينظم محاكم المملكة بجميع درجاتها وأنواعها، ومنذ سنة 1974 التي عرفت صدور الظهير المنظم لها إلى اليوم، عرف مجموعة من الثغرات والنقائص التي كشف عنها العمل القضائي من خلال الممارسة الواقعية في الحياة القضائية اليومية، إذ برزت مجموعة من الإشكالات المرتبطة بعدم انسجام قواعد المسطرة المدنية مع دستور المملكة، وعدم مسايرته للاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، بالإضافة إلى ظهور الرقمنة، وكذا ضعف جودة الأحكام وغياب الأجل المعقول في مجرى المحاكمة.
ويمكن القول أن هذا المشروع بصيغته هذه، جاء مخالفا لأحكام الدستور، وأن المحكمة الدستورية سوف تصرح بعدم دستوريته، لأن أغلب أحكامه تهدم الدستور في أعتى مبادئه وقيمه، وأنه قانون وكلاء وليس قانون محاماة، ذلك أن الفصل 118 من الدستور جاء بإعطاء الحق في التقاضي للأشخاص وكذا الحق في الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، غير أن هذا المشروع التفاف صريح على الدستور وعلى الاتفاقيات الدولية وقام بإلغاء هذا الحق عبر تقييده بشروط تعجيزية، وينم أيضا على افتراض سوء النية في المتقاضين، عبر تقييد حق التقاضي بالتهديد بغرامات مالية كبيرة، ذلك أن المشروع في مادته العاشرة أعطى الحق تلقائيا للقاضي أو بطلب من النيابة العامة أو أحد الأطراف أن يدفع بسوء نية التقاضي ويطالب بغرامة. كذلك فإن هذه الغرامات ومبدأ سوء النية يضرب حياد القاضي في الموضوع.
وهذا يهدد المتقاضين ويجعلهم متخوفين من اللجوء إلى القضاء، مما يضرب حق التقاضي في مقتل، أضف إلى ذلك عدم تحديد مفهوم سوء النية مما يترك الأمر فضفاضا، وهذه الغرامات تضرب مبدأ مجانية القضاء في الصميم وهذا مخالف لأحكام الدستور، كأني بمؤسسة القضاء أصبحت وكالة تجارية غايتها تحصيل مداخيل مالية أكبر، أو كأن القضاء ضاق درعا بالمتقاضين، وأسس لقانون غايته تضييق باب الولوج أمام المتقاضين للمحكمة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن التجريح في القاضي يستوجب الحكم بالغرامة، فإذا دفع متقاض بالتجريح في قاض بسبب قرابة أو عداوة أو رأي، ولم يقبل دفعه، فإن المتقاضي يحكم عليه بغرامة، وهذا تضييق كبير على حق المتقاضي .
كما أن مخاصمة القاضي بالغش أو التدليس أو غيره يمكن أن يؤدي بالمتقاضي إلى أداء الغرامة، وهذا مخالف لروح العدالة. وكذلك الدفوع التي تثار أمام المحكمة يمكن أن يحكم مثيرها بالغرامة، كالدفع بانعدام الصفة مثلا، فإذا ثبتت هذه الصفة، فإن الدافع بها يمكن أن يحكم عليه بغرامة، وهذا أمر خطير من شأنه تكميم الأفواه. أضف إلى ذلك تغيير بعض المصطلحات القانونية ببعضها البعض، ففي عبارة الاستدعاء مع الإشعار بالتوصل، تم الاكتفاء بالاستدعاء، وهذا أمر خطير وحساس يخرق حقوق المتقاضين في التوصل بالاستدعاء، وهو أهم إجراء في الدعوى.
ولعل المثير والذي يهدم الحقوق والحريات، ويضرب في العمق مبادئ العدالة، هو المادة السابعة عشر، والتي لا تخالف أحكام الدستور والمواثيق الدولية، وإنما تكرس بقوة للاستبداد السياسي، فهذه المادة تعطي الحق للنيابة العامة ببطلان الحكم في أي مرحلة من مراحل الدعوى، وهذا الإجراء إلغاء صريح لمفهوم المحكمة، فالنيابة العامة يحق لها بمقتضى هذا النص أن تطعن في أي حكم يمكن تنفيذه، ولو كان هذا الحكم نهائيا، فهذا النص في حقيقة الأمر تحقير للقضاء وانتهاك لمبدأ قوة الشيء المقضي به وتغييب لسلطة القضاء، وضرب للأمن القضائي.
وللعلم فإن الفصل 381 من قانون المسطرة المدنية الحالي حكيم فهو يعطي للنيابة العامة الطعن لفائدة القانون دون تضرر الأطراف، وأن هذا الطعن لا يوفق التنفيذ. كذلك فإن مشروع الفصل 383 وهو تعديل للفصل 396 الحالي، حيث أن الفصل جاء بتعديل مفاده أن المقررات الصادرة في مواجهة الدولة والجماعات الترابية وأشخاص القانون العام، لا يمكن تنفيذه إلا إذا كان نهائيا، بخلاف الأحكام الصادرة في مواجهة المواطنين والتي يمكن تنفيذها قبل أن يكون الحكم نهائيا، مما يعطي للإدارة مركزا قانونيا أعلى من المواطن، وهذا مخالفة صريحة للفصل السادس من الدستور، وللمواثيق الدولية، وللمساواة أمام القانون.
صفوة القول أن مشروع قانون المسطرة المدنية هو تهديد للأمن القضائي، وهدم صريح للحقوق والحريات، وضرب صريح في مبدأ المساواة، ويكرس للاستبداد، ويمكن القول أن غاية الدولة الديموقراطية هو بناء نظام للعدالة، فيما أن مشروع القانون هذا جاء ليبني نظام الأمن على حساب حقوق وحريات المواطنين، وهذا تكريس صريح للاستبداد.