17
مصطفى عنترة يكتب : استكمال الورش الدستوري…
شكل دستور فاتح يوليوز 2011 لحظة متقدمة في مسار تكريس مبادئ الحكامة الجيدة، وتعزيز آليات الديمقراطية التشاركية، وترسيخ قيم النزاهة والشفافية وثقافة المحاسبة عبر إحداث هيئات دستورية للتشاور قصد إشراك فاعلين مدنيين في بلورة السياسات العمومية وتفعيلها وتتبعها وتقييمها.
لكن الملاحظ أنه رغم كل هذه المكتسبات الديمقراطية النوعية التي شكلت عنوانًا بارزًا للوثيقة الدستورية، فإن ورش الدستور لم يكتمل بنيانه بعد، رغم مرور أزيد من ثلاثة عشر سنة من المصادقة على دستور فاتح يوليوز 2011 لأسباب تثير أكثر من تساؤل.
صحيح أن المغرب قدم نموذجا متميزا في التعاطي مع المطلب الدستوري زمن ثورات “الربيع العربي” وحراك عشرين فبراير، ذلك أن عاهل البلاد الملك محمد السادس قدم عرضا قويا من خلال خطاب التاسع من مارس، وشكل لجنتين: اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور تحت إشراف عبد اللطيف المنوني، والآلية السياسية للتتبع والحوار حول الدستور عهد إليها المستشار الملكي والفقيه الدستوري السي محمد معتصم.
وشكلت الوثيقة الدستورية سنة 2011 لحظة تاريخية استثنائية في مسار المغرب، مكنتنا من الحصول على دستور متقدم في الشكل والمضمون، استطاع الإجابة على مجموعة من المطالب المطروحة. لكن ما يلاحظ أن هذا الورش بقي غير مكتمل، كيف ذلك؟
لقد نص الدستور على 10 هيئات تهم حماية الحقوق والحريات، والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية، لدرجة وصفه بعض الباحثين بـ “دستور الحقوق والحريات والحكامة”. إلا أن ما يثير الاستفهام والاستغراب في الآن ذاته هو أن بعضًا من هذه الهيئات، بالرغم من مكانتها وأهميتها الدستورية، لم تعرف طريقها نحو تجديد هياكلها، كـ”مجلس الجالية المغربية بالخارج” وإعطاء نفس جديد لشرايينه، لاسيما في ظل توجهات الدولة تجاه قضايا مغاربة العالم.
وجدير بالتذكير أن مجلس الجالية تم إحداثه بتاريخ 21 دجنبر 2007، وانتهت ولايته الأولى بانتهاء أربع سنوات. ومنذ إقرار دستور فاتح يوليوز 2011 لم يتم تجديد هياكله، ولا تحيين قانونه بما يتوافق مع مقتضيات الفصل 16 من دستور المملكة الذي ينص على حماية الحقوق والمصالح المشروعة للمواطنات والمواطنين المغاربة المقيمين بالخارج.
والبعض الآخر لم يتم تفعيله قط، كـ”الهيأة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز”، و”المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة”، و”المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي”، إضافة إلى “المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي” الذي لم يتم تجديد هياكله منذ 21 فبراير 2011، رغم أن قانونه التنظيمي يحدد ولايته الانتدابية في خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. وهو بذلك يعتبر منذ 2016 خارج الزمن الدستوري، ولازال أعضاؤه يزاولون مهامهم بصفة انتقالية منذ صدور قانونه التنظيمي الجديد بتاريخ 14 غشت 2014، وكذلك “المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية” الذي لم يتم إحداثه بعد.
إن المشرع الدستوري نص على هذه الهيئات ليس بشكل اعتباطي، بل تلبية لحاجة مجتمعية ضرورية وجواب موضوعي على مطالب سياسية فرضت نفسها بقوة قبل وإبان الحراك الشعبي. همت الشباب كعنصر حيوي قاد “حركة 20 فبراير” ورفع شعارات الإصلاح والتغيير، والمرأة كحركة نسائية لها مطالبها المشروعة والعادلة في المساواة والإنصاف وعدم التمييز، وأن الديمقراطية لا يمكن أن تكتمل في غياب إقرار حقوق كاملة للمرأة، ثم الأسرة كأساس للمجتمع وكمنطلق لكل إصلاح مجتمعي منشود.
ويندرج في السياق نفسه، “المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية” كإفراز لوعي متقدم ونضج عالٍ للدولة بشأن التعامل مع معطى التعدد اللغوي والتنوع الثقافي الذي يزخر به مجتمعنا، والتفكير في بلورة الآليات الدستورية والمؤسساتية لتدبيره وحمايته.
لقد عرفت عملية إعداد الترسانة القانونية لهذه المؤسسات المشار إليها، نقاشا كبيرا في جوانبه المختلفة سواء داخل قبة البرلمان أو خارجها، كما عرضت الهيئات المعنية مذكرات وقدمت مرافعات، لدرجة أن “المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية”، على سبيل المثال، تطلب إعداد مشروع قانونه إحداث “لجنة خاصة” ضمت شخصيات أكاديمية وثقافية وحقوقية. ونُظمت استشارات مع العديد من المؤسسات ومنها طبعا البرلمان بمجلسيه، ووضعت مسودة للقانون المنظم للمجلس لدى طاولة الحكومة للاستئناس به في إعداد مشروع القانون.
لكن الملاحظ أن الورش الدستوري لازال غير مكتمل، ينتظر ربما إرادة سياسية، قصد تفعيل هذه المؤسسات الدستورية وتمكينها من القيام بأدوارها ووظائفها، في أفق استكمال هذا الورش الوطني الهام في اتجاه تحقيق التنمية المستدامة وتوطيد دعائم دولة الحق والقانون والمؤسسات.
● د مصطفى عنترة، باحث جامعي وإعلامي