ع. العزيز كوكاس: الإشاعة بالمغرب.. السم القاتل
أكسبت وسائل التواصل الاجتماعي الإشاعة ميزة جديدة، تتمثل في سرعة الانتشار، وأنها أصبحت ذات أثر مكتوب مصحوب بالصورة وقريبة جدا من الواقعية، ولم تعد الإشاعة تُرفع عبر الحامل الشفوي، فعصر الرقمنة وسع مجرّاتها واستقطب شرائح مختلفة من المتداولين لها..
إن الحمولة الرمزية للإشاعة أقوى من الخبر المرتبط بحدث أو واقعة أو شخص ما، ومجال تداولها يتسع أكبر ويغطي فضاءات أوسع قد يخرق الحدود والمجال كما حدث مع كنز جبل سرغينة الذي جعل 20 ألف مواطن من داخل وخارج المغرب يحجون إلى الجبل لأخذ نصيبهم من الكنز، فالإشاعة حسب الباحث الفرنسي جان نويل كابفيرير تنتشر في كل مكان بغض النظر عن طبيعة البيئة التي تحكم حياتنا الاجتماعية (انظر مقدمة كتابه “الشائعات: الوسيلة الإعلامية الأقدم”).
فبرغم انتشار وسائل الإعلام بكافة ألوانها، ظلت الإشاعة بمثابة القوت اليومي للمغاربة، إنها هنا والآن تملك كل مقومات الوجود والانتعاش، غموض المستقبل، غياب المعلومة، اليأس وانسداد الأفق، عدم وضوح قواعد اللعب، تقول العامة “ريال ديال الجَّاوي تيبخَّر مدينة بأكملها”، لأن الإشاعة تنتشر مثلما تنتشر النار في الحطب الجاف، من فم إلى أذن، وعبر فرن وسائط التواصل الاجتماعي، تكبر الإشاعة ويضفي عليها الخيال الجمعي عبر إذاعة المجتمع الكثير من التوابل، لأن الإشاعة تعوض انتشار الحقائق والمعلومات وتلبي حاجة الناس إلى المعرفة وأحيانا للهروب من الواقع المر والحقائق المؤلمة، وأيضا رغبتهم في تحقيق نوع من التوازن النفسي والوجودي في مرحلة تاريخية ما.
لا تخضع الإشاعة من بدء صنعها حتى انتشارها لضوابط محددة، وهو ما يجعل أنماط إنتاجها تتعدد وتتعقد وتناسلها وتوالدها واتساع فضاءات شيوعها واستهلاكها يصبح أكثر يسرا، فيما يخضع الخبر لإكراهات عدة ترتبط بهويته وخصوصيته ووصولا إلى تبعاته ومآلاته..
العديد من الإشاعات في المغرب كانت تساهم في إعادة تشكيل الوعي الجمعي للمغاربة، من رؤية محمد الخامس في القمر إلى ادعاء الحركة الوطنية أن نصيب كل مغربي من الفوسفاط بعد الاستقلال هو عشرة دراهم، للتأثير في الشعور الوطني لعامة الناس، إن الإشاعة رغم بعدها عن الحقيقة إلا أنها هنا تقوم بوظيفة التعبئة وحشد الهمم حول رمزية السلطان الذي يكتسي بعد القداسة، أو الدفاع عن خيرات الوطن ضد المستعمر الغاشم أو المستبد المستفرد بخيرات الأرض.
إن “الإشاعات تملأ العالم وغالبية البشر يعتقدون بصحتها رغم زيفها” كما تقول السوسيولوجية الفرنسية فيرونيك كامبيون في كتابها “الأساطير المدينية: إشاعات اليوم”، والمغاربة ليسوا استثناء.. منذ القدم كانت السرديات المرتبطة بالملوك وحاشية السلاطين تجد لها مرتعا خصبا في نفوس الناس وبعضها اختلط بحقائق التاريخ مثل أن المولى إدريس الثاني عثر على فأس حين كان يحفر عاصمة دولته فسماها فاس، والمولى إسماعيل أنجب خمسمائة بنت وخمسمائة ابن، وأنه كان يستقبل سفراء الدول الأجنبية ببذلة الجزارين بعد أن يكون قد ذبح شاة أو بقرة، ويصافح السفراء ومبعوثي الدول البرانية وهو يمسح يده من آثار الدماء ليرهبهم، ورفع المهدي بن تومرت إلى السماء ليكون من الأولياء الصالحين كما لو أنه المهدي المنتظر الذي سيملأ الدنيا عدلا بعدما ملئت جوراً كدليل على القوة والجبروت، وما تردد من إشاعات عن “التباريد” الذي كان يحمي الحسن الثاني والذي صنع له من طرف فقيه سوسي، لأن الرجل نجا بأعجوبة من انقلابين عسكريين فضخمت الذاكرة الجماعية من شكل حمايته التي تميزه عن الناس، ولحقت الإشاعة حتى معارضي الدولة مثل ما روي عن الروكي بوحمارة الذي ألقى القبض عليه المولى حفيظ ووضعه في قفص رفقة أسد جائع، لكن الأسد تحول إلى قط وديع ولم يفترس الروكي مما جعل مولاي حفيظ يقتله بمسدسه خوفا من انتشار الإشاعة بين العامة فيتحول إلى ولي صالح له أنصاره ومريدوه.
ومن كثرة رهبة المغاربة في زمن الجمر والرصاص كانت تروج إشاعات بينهم مثل كون أوفقير كان له كلب قوي أشبه بالذئب كان يُرمى له خصومه كوجبة دسمة، وفي دار المقري كما في محيط تازممارت أطلقت السلطة شائعة أن المكان مسكون بالجن، وهو ما كان يرفع من سرية هذه الأماكن ويمنع فضول الناس من التقرب منها، وفي حي التقدم بالرباط كان العديد من الراجلين يغيرون طريقهم ليلا من الشارع المجاور لدار المقري القديمة التي كانت تستعمل كمعتقل سري خوفا من المس بالجن.
لا تحتاج صناعة الإشاعة دوما إلى أطر وكوادر وتقنيات عالية، وخبراء في مجال علم النفس وعلم الاجتماع وكافة فنون التواصل، بل يحكمها السياق الاجتماعي والسياسي، ولكي تنجح وتخترق الآفاق عليها أن تقدم أجوبة لدى المتداولين وتُشبع حاجات نفسية واجتماعية في البيئة التي تنشأ فيها، ويستلزم أن تمتلك بعض أجزاء الحقيقة أو تقترب منها لتكون مقبولة ومستساغة لدى المتلقين، لذلك يميز الباحث نور الدين الزاهي بين الخبر والإشاعة، ف”للخبر ناقل أو واصف أو مؤلف؛ مثلما له مصدر، قد يكون المعاينة أو المعايشة والمشاهدة، أو مصدر ما متوسط (وثيقة، شخص مادي أو معنوي، موثوق به). وبسبب ذلك يتحمل ناقل الخبر أو صانعه مسؤولية كاملة عن طبيعة الخبر وحيثياته مثلما يتحمل تبعات ذلك على جميع المستويات الأخلاقية والمهنية والقانونية… إنها الإكراهات الكبرى التي تجثم على الخبر وعلى آليات صناعته، وتجعل منه محكيا واقعيا، أي حدثا لغويا لصيقا بالحادثة أو الواقعة.. عكس ذلك تتمتع الإشاعة بالحرية سواء من حيث طبيعتها أو كيفيات ولادتها وقنوات استمراريتها”، حتى أن بعض القواميس تعرف الإشاعة بكونها “ضجيجا غير مهيكل” ميزته الدوام والاستمرارية. ويضيف الأستاذ الجامعي والباحث السوسيولوجي: “الإشاعة ظاهرة لغوية تواصلية ترتكز على محكي وليس على حدث، محكي يزعم أنه يقول الحقيقة معتمدا في ذلك كل أدوات التواصل المنظمة وغير المنظمة.. تلتقي الإشاعة مع الأسطورة والنكتة والمثل في كونهما جميعا فاقدة الأب/المؤلف.. ومن تم تظل متحررة من كل مصدر ثابت، الأمر الذي يسهل عملية التناقل والتناسخ الشفويين (الإذاعة العربية)، وييسر فعل الانتشار ويسرع من إيقاعاته”.
تحضر الإشاعة حين يغيب الخبر ومعه الحدث الواقعي، لذلك يمكن القول بأن الإشاعة محكي متخيل، مهمته جس نبض الحدث القادم ومعه جس نبض التطلعات وأفق الانتظارات. وبفضل ذلك تكون الإشاعة طرفا في صناعة الحدث الممكن وعنصرا فاعلا في رسم ملامح حدوثه وميلاده. قد تكون الإشاعة شرطا مهيئا لاستقبال الخبر أو العكس، وقد تصبح بفعلها وفعاليتها طرفا ضاغطا لتأجيل الحدث أو إلغاء حدوثه”.
يقول المثل إن “الإشاعة يؤلفها الحاقد وينشرها الأحمق ويصدقها الغبي”، لكن واقع الأمر مغاير لهذه القاعدة، لأن الإشاعة لا أب بيولوجي لها، تنطلق منفلتة من العقال وتتعرض للتضخيم والتعديل عبر مسارها الطويل، لذلك تختلف الإشاعة بحسب البيئة التي تنتشر فيها أو الوظيفة التي تتقصّدها، تفتح الأمل أو تغذي حاجة أو تسعى إلى إضفاء هالة من الخوف والرهبة على متلقيها، من خلال ما ينسج من حكايات غرائبية حول أبطالها، أو إلى جعل المستحيل ممكنا وهو ما يساهم في إعطاء الأمل وفتح آفاق جديدة في حالات اليأس والأزمات الاجتماعية والسياسية، ذلك أن الإشاعة تتسم بفعالية رمزية كبرى يمكن قياس مداها بمدى ودرجات تأثيرها على الفرد والجماعة، وكذا على الآراء والمواقف والأحداث، وقدرتها على التوجيه كوظيفة محورية، وهي لا تميز بين الأمي والعالم، إذ أن وفاة عبد الله العروي كإشاعة تداولها مثقفون وازنون على صفحاتهم، لكنها تجد مرتعا خصبا لها كلما غاب الخبر اليقين أو تقلص هامش الفكر النقدي.
تندرج الإشاعة ضمن استراتيجيات الخطاب والتواصل السياسي، وبالتالي أصبحت موضوعا ضمن علم السياسة وعلم الاتصال والتواصل الذي يهتم بوظائف الإشاعة التي تتناسب مع شكل الثقافة المجتمعية التي تنمو فيها، من هنا اعتادت الإشاعة بالمغرب إقالة حكومة أو بعض وزرائها وتعيين آخرين… للإشاعة هنا بعد ملء الفراغ السياسي وفتح شهية مقاطع واسعة من النخبة السياسية بالمناصب والمسؤوليات الوزارية، وأيضا لحرق بعض الأسماء بعد تداول أسهمها في السوق السياسية، وأيضا لاختبار ردود أفعال المحكومين تجاه الأسماء المشاع استوزارها أو إقالتها.
الإشاعة أيضا ظاهرة مرضية نفسية، إيروتيكية، إستراتيجية لها دافع خاص إما لإثارة الرعب والقلق في النفوس أو رغبة في التندر والفكاهة أو لتحقيق أهداف وأحلام تعبر عن الأماني، ولا تنفصل الإشاعة في الحروب والسلم عن حدود التعبير عن النواقص أو تغطيتها بإظهار الشجاعة والإقدام، حيث لم يسلم حتى الأنبياء من الإشاعة في أحاديث موضوعة لغرض أو هدف ما.
من هنا خطورة وظائفها، خاصة الإشاعات التي تقصد توجيه الرأي العام أو اختبار ردود أفعاله كإشاعة استقالة رئيس حكومة أو قرب حدوث تعديل حكومي أو الزيادة في بعض المواد الاستهلاكية الحيوية، فغالبا يكون المصدر هو السلطة أو الفرقاء السياسيون المتنافسون، الذين يختبرون رأي الشارع العام وردوده في ذلك التعديل أو الاستقالة وتأثيره على الحياة السياسية… فما دام الإنسان موجودا في مجتمع سياسي فلابد من الإشاعة لتحقيق مجال “التواصل السياسي”، وقد تطلق على شخص معين بغرض تدمير حياته الشخصية أو خلط بين ما هو فضاء عام وما هو فضاء خاص، ففي محادثة خاصة مثلا مع أحد الفاعلين حول حياته الأسرية قد يتحول ذلك الخبر إلى الحياة العامة، وبالتالي تكون الإشاعة مجالا خصبا للحديث عن الفئات السياسية بحس انتقامي أحيانا كثيرة.