عبد العزيز كوكاس.. هل المغرب جزيرة مطوقة؟
لا تُصنع السياسة فقط بالقرارات العابرة والمواقف الآنية ولا بردود الأفعال، والقائد السياسي وصناع القرار عامة محكومون بسياقات عديدة وخلفيات عوامل عديدة جد معقدة، من ثقل التاريخ بجراحه وأمجاده، بانتصاراته وانكساراته، وقدر الجغرافيا التي تدفع نحو المغامرة والانفتاح أو تفرض الحيطة والحذر والانعزال، وأيضا بفعل اعتبارات نفسية واجتماعية وثقافية تتدخل في صنع السياسة في الداخل كما في الخارج، وتتحكم في الفعل وردود الفعل، هذا البعد هو الذي دفعني للتفكير بقوة في تصور مؤرخ ومفكر وازن من حجم عبد الله العروي، الذي تحدث منذ ما يقارب العقدين عن مفهوم “المغرب المطوق” بموقعه الجغرافي وثقل التاريخ الإمبراطوري للمملكة ومواقف الدول التي تحاول محاصرة المغرب فيما يسعى المغاربة دوما، كشعب يقبل أن يحكم الغير بدل أن يحكمه الآخرون، إلى التحرر والاستقلال والانعتاق من أسر الجزيرة المحاصرة، إن الأمر يتعلق بمفكر لا يقف عند الآني والعابر، بل يهمه كمؤرخ القبض على ما يحرك الحدث الآني وإسقاطاته على الحاضر، أو كما عبر في أحد حواراته: “يصعب علي التدخل في هذا النقاش -أي الراهن السياسي- لسبب واحد لا علاقة له بشخصي، وهو أني لا أستطيع كمؤرخ وكمحلل أن أقف عند الظروف الراهنة أحكم على هذا ضد هذا، مع هذه السياسة أو ضد هذه السياسة. فلابد أني أرى الجذور دائما عميقة ومتشعبة”.
العروي و”نظرية” الجزيرة المطوقة
الجزيرة المطوقة والأهالي الرافضين للحصار
هذا هو المعنى الأبعد – في تقديري- لحديث عبد الله العروي عن كون المغرب جزيرة مطوقة وعلى المغاربة أن يتصرفوا كسكان جزيرة، لكن إذا كان الموقع الجغرافي يجعل المغرب يبدو مثل جزيرة مطوقة، فإن تاريخه التليد الضارب في التاريخ والأيالات الإمبراطورية التي حكمت المغرب وامتدت إلى حدوده الخارجية في محيطه الإقليمي والغارات وحروب الاسترداد، جعل أهاليه يشعرون بنوع من الاعتداد والافتخار بالنفس، بكونهم هم من يجب أن يحكموا الآخرين، ولا يقبلون أن يحكمهم الغير، وهو ما يترجم في لغة خصوم المملكة إلى نفس توسعي واستعماري، من هنا بعد التحدي ورفض وضع أن يتم عزل المغرب سياسيا وإستراتيجيا حتى وإن حكم الموقع الجغرافي بذلك، لذلك فإن كل إستراتيجيات السياسة الخارجية للمغرب حتى اليوم، تحكمت فيها عوامل محاولة رفض عزل المغرب عن محيطه الإقليمي، عودته إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، خطته في التوغل بعيدا في إفريقيا حتى في الدول الأنجلوساكسونية التي لا روابط ثقافية وتاريخية كانت لها مع المملكة، تنويع شركائه في أبعد نقطة من الأرض من روسيا إلى الصين والهند واليابان، مواجهة أشبه بالمغامرة أو المخاطرة السياسية مع مدريد وبان كسب رهانها.
المغرب المنعزل والمحاصر برأي الغير بين الحقيقة والأساطير
لقد ترك لنا الرحالون الذين توغلوا في مغرب القرن التاسع عشر أو الدبلوماسيون الذين كانوا يقيمون بصعوبة علاقة مع السلطان انطلاقا من طنجة، التي كانت باب المغرب المفتوح جزئيا على الخارج، شهادة عن هذا البلد المنغلق على ذاته، القليل التواصل، الذي كان فيه كل سفر مغامرة وكل طريق سبيلا محفوفا بالشكوك وحتى المخاطر.
إن قدر الجغرافيا الثابت الوحيد في التاريخ كما كان يقول بسمارك، جعلت من المغرب بالفعل جزيرة محاطة بسيل كبير من المشاكل تأتي من كل الجهات الأربع، فرض تحديات كبرى على السياسة المغربية في الداخل كما في الخارج، وهو ما ظل يدفع نحو أبعد مدى من صندوق خريطة القدر المغربي، للتوجه نحو المحيط الأطلسي، والعودة إلى البحر الذي كان مصدر رهبة باعتبار ما يمنحه اليوم من إمكانات هائلة لكسر حواجز الجزيرة المطوقة للمغرب.