ياسين المصلوحي..سورية الجديدة ورهان المستقبل

انتظرت إلى أن تضع احتفالات أهل الشام أوزارها وتخفت أصوات الفرحة بسقوط – هروب بشار، وتسكن فرائس فلول النظام المرتعدة، لكي نتمكن من القيام بتحليل موضوعي للأوضاع، ووضع كل حجر في الزاوية التي تناسبه لإكمال الصورة الواقعية القريبة من الحقيقة ما أمكن والقريبة من الواقع لسورية اليوم.
في الثامن من دجنبر 2024، وضعت نقطة النهاية لقصة حكم آل الأسد لسورية، لفترة 54 سنة تعاقب فيها الأسد الأب حافظ وابنه بشار مستعملين في ذلك الأدوات والأساليب المشروعة والغير المشروعة، بهدف تثبيت الحكم وفقط، حتى وإن اقتضى الأمر تصفية الأقارب ونفي الأخ كما وقع مع رفعت الأسد.
54 سنة تغلف فيها النظام السوري بغلاف المقاومة، وهو الذي لم يطلق رصاصة واحدة تجاه المحتل لهضبة الجولان، بل وترك الجنود المغاربة دون تغطية جوية خلال حرب 1973 في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي ارتكبت مجزرة في حق الجنود الشهداء المغاربة، التي لازالت جغرافيا سورية شاهدة عليها بدماء سقت أرض الجنوب السوري.
سوريا آل الأسد التي لحقتها رياح الربيع العربي في مارس 2011، والتي لم يكن شعبها حينها يطالب بإسقاط النظام، وإنما فقط القيام بإصلاحات مؤسساتية في سقف يراعي كرامة المواطن ويصون حقه في العيش الكريم. إلا أن تعنت النظام وجبروته جعلته يواجه هذه المطالب بالرصاص الحي، وإسقاط عديد الضحايا وقمع أصوات المتظاهرين، مستعينا بعناصر الجيش الذي لم يجد الشرفاء فيه مكانا، حيث انشقوا فيما بعد مشكلين نواة الجيش السوري الحر الذي رفض رفع رشاشاته في وجه أفراد شعبه عوض توجيهها للدفاع عن حدود الدولة السورية.
بعد سنوات من الشد والجذب بين المعارضة السورية والنظام السوري وبعض الجماعات المتطرفة، التي تجد في الفراغ أرضا خصبة لزراعة الفوضى والدمار والتطرف، تعشش الدواعش في بقاع مختلفة من أرض سوريا زادت من تأزيم أوضاع الشعب السوري في المناطق التي سيطروا عليها. دخلت قوى أجنبية عديدة تدعم الجهات كلها ; بين حزب الله الشيعي وإيران الصفوية وروسيا الداعمين لنظام الأسد حفاظا على مصالح استراتيجية معينة، في مواجهة تركيا وبعض دول الخليج الداعمة للمعارضة السورية في محاولة للحفاظ على توازن القوى الإقليمية، وعدم احتكار الثروات والخيرات السورية من طرف جهة واحدة.
التحولات الجيو-استراتيجية التي عرفها الشرق الأوسط في الثلاث أشهر الأخيرة من سنة 2024، جعلت كل القواعد والضوابط تنقلب رأسا على عقب، انطلاقا من اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية وسط عاصمة إيران وعلى بعد أمتار من القصر الرئاسي الإيراني، ثم يليه اغتيال حسن نصر الله في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، انتهاء باغتيال يحيى السنوار العقل المدبر لعملية طوفان الأقصى والدراع العسكري لحركة حماس. كل هذه الأحداث كانت توضح بما لا يدع مجالا للشك أن إيران التي كانت تستعمل القضية الفلسطينية ومقاومة حزب الله، كواجهة لها في علاقاتها الدولية، أصبحت تعيد رسم خريطة اللعبة السياسية والعسكرية في المنطقة، بما يخدم أجندتها إلى درجة التضحية بأدرعها الحركية والأدوات التي كانت تمارس الحرب بالوكالة عنها. كل هذه التطورات كانت تنبئ بحدوث أمر مهم في الطرف الأخر المتبقي “سورية”.
فقبل الثامن من دجنبر كانت هناك تحركات من هيئة تحرير الشام، انطلقت من مدن الشمال السوري في اتجاه العاصمة دمشق، ولطالما كانت ميليشيات إيران وقوات روسيا تساعد في قمع أي تحرك للمقاومة ضد نظام الأسد. إلا أن هذه المرة لم تحرك هذه الميليشيات ولا القوات النظامية ساكنا دفاعا عن بشار، بل لم يتم تنبيهه إلى ضرورة الخروج من سورية إلا قبل سويعات من إسقاط أو فتح دمشق، لتستفيق سورية ومعها باقي دول الوطن العربي على سورية جديدة بلا أسد، في مشهد هروب دراماتيكي مخلفا وراءه أخوه وأبناء عمومته وأفراد عائلته يلاقون مصيرهم مع الإدارة الجديدة.
ومع بزوغ فجر هذا اليوم، تم إماطة اللثام عن جرائم بشار الفظيعة، من تخزين وتكديس لجثت المعدومين الميدانين دون أي محاكمات، وعن السجون المليئة بالمعتقلين على اختلاف جنسهم وسنهم، ومخازن البراميل المتفجرة التي كانت تهوي على رؤوس المواطنين، وعن حجم الدمار الفعلي الذي لحق البنية التحتية والتجهيزات الأساسية.
أحمد الشرع القائد العام لإدارة العمليات العسكرية للمعارضة السورية الذي كان موضوعا في قائمة الارهابين، و أحد المطلوبين من الولايات المتحدة الامريكية مقابل مكافأة مالية مغرية، أصبح يفرض على العالم الغربي التعامل معه لعدة أسباب أهمها، المشروعية التي اكتسبها من المواطنين كونه يشكل صورة المخلص من النظام القمعي، إضافة إلى السلوك الذي اتسمت به عملية الإسقاط – الفتح و ما واكبها من معاملات إنسانية دون دموية و لا تخريب و لا تنكيل و لا رغبة في الانتقام من المعارضين، في المدن المسترجعة ( إدلب حلب حماة و حمص…..) إضافة إلى مبادرة التسوية التي تم إطلاقها مع الجنود السابقين الذين تمت دعوتهم لتسليم السلاح مقابل العفو عنهم.
إن التخوف الكبير والتحدي المهم الذي يواجه سورية اليوم، هو جعل البلاد تتسع لكل الآراء والتوجهات بعيدا عن الطائفية والعنصرية والتعصب مع ضرورة تخطي هاجس الانتقام الذي لن يزيد البلاد إلا غرقا.
سنوات القصف والخراب والتي عرفتها سورية تحتاج لسنوات أخرى من الاعمار والبناء، وهذا يتطلب علاقات دولية قائمة على المصلحة المتبادلة بين الدول البانية المعمرة والدولة المبنية.
في وسط كل هذا تطل علينا أصوات تقول إن المعارضة السورية ليست إلا جماعات، إلى الأمس القريب كانت توصف بالإرهابية والمتطرفة، فمن أين جاءت بكل هذه الموارد والآليات والمعدات، إضافة إلى التساؤل عن سبب الحياد السلبي للقوى العالمية خصوصا روسيا والولايات المتحدة الامريكية والدول الأوروبية؟ ثم يطرح الرأي الذي يقول إنه لن يتغير شيء باستبدال نظام ديكتاتوري قمعي بنظام إرهابي متطرف.
إن السياسة الدولية لا تعترف بصداقات دائمة ولا عداوات دائمة و أنما بمصالح مشتركة ، لذلك فإن ضمان بقاء مصالح القوى العالمية من طرف القيادة الجديدة سيضمن من خلاله الدعم و المشروعية الدولية، حيث أن الحفاظ على مصالح روسيا الاستراتيجية، و ضمان استمرار استفادة الولايات المتحدة الامريكية من حقول النفط في الشمال، و إعطاء الضوء الأخضر لتركيا لمواجهة الأكراد و التوغل إليهم في عمق الأراضي السورية سيوفر الدعم التركي، زد على ذلك مهادنة الأنظمة العربية خصوصا الخليجية منها و خوصا مع أن النظام السابق لم يكن في تناغم مع الدول العربية بسبب قربه من الدولة الفارسية، لم يجعل أحدا من الحكام العرب أسفا على سقوطه.
أما بخصوص تغيير نظام بنظام اخر يشبهه، فإنه إذا لم يكن من شيء إيجابي في سقوط حكم الأسد إلا مشهد تحرير الأم المعتقلة في سجن صيدنايا رفقة طفلها الذي لم يتعد الأربع سنوات من العمر، لكان ذلك شفيعا للترحيب والتهليل. ولو أن الربح الوحيد من ذلك هو إيقاف صوت هدير الطائرات الحربية فوق رؤوس المدنيين، والخوف الدائم من البراميل المتفجرة، وحصص العلاج الكيماوي القاتلة لكان ذلك سببا كافيا لدعم الإدارة الجديدة، دون أن ننسى رجوع ملايين النازحين واللاجئين والمهجرين قسرا من موطنهم.
التحركات الديبلوماسية المتواترة مؤخرا من طرف أحمد الشرع لاستقبال ممثلي الدول الأوروبية و العربية، يبعث على الاطمئنان و زرع الثقة لدى كل المتتبعين، كما أن مبادرة تنظيم مؤتمر الحوار الوطني السوري يجمع كل الاطياف و الألوان و التوجهات السياسية و الدعوة إلى سن دستور جديد، يراعي خصوصية الدولة و يحترم تنوع روافدها، بادرة طيبة يسعى من خلالها للتأكيد أن سورية للجميع، كما أنه سيجنبها الوقوع في الخطأ الذي وقعت فيه بعض الدول العربية عقب الربيع العربي، حيث تهافتت كل القوى على من سيحكم، ناسين او متناسين وضع أسس الحكم، حيث تم الاهتمام بمن سيحكم عوض التفكير كيف سنحكم و ما تلا ذلك من تفصيل للدستور على مقاس الحاكم، و ما خلفه من احتقان، و خير مثال على ذلك تجربة حكم جماعة الإخوان في مصر.
ختاما، فإن عاصمة الأمويين بما تمثله من حمولة حضارية وثقافية، ما كان لها أن تبقى تحت رحمة حكم أسرة سادية، تعرقل مسار التطور والنهضة تمزق أواصر الوطنية، تشرد ملايين السورين وتزهق أرواح مئات الآلاف منهم. بل كان لا بد لها من النهوض والانبعاث من تحت الرمادة لإعادة إشراق شمس الحضارة والتاريخ العربي من جديد.
لنترك سورية للسوريين ولا يلعب أحد دور الوصاية على الشعب السوري، ولا يصادر حقهم في التقرير فيما هو الأصلح لهم، لإن عذاب الحرية هو جنة بالمقارنة مع رغد العبودية هذا إن كان في العبودية رغد من الأساس.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقبل اقرأ المزيد

تم اكتشاف الإعلانات محظورة

يرجى دعمنا عن طريق تعطيل ملحق الإعلانات المحظورة الخاص بك من متصفحاتك لموقعنا على الويب.