تابعت بالأمس الفيلم الوثائقي قيمة ساعة للمخرجة المصرية منال خالد. وغادرت القاعة مباشرة بعد نهاية الفيلم تفاديا للنقاش الذي يعقب عادة عرض الأفلام. وذلك حتى لا أقرأ الفيلم بعيني المخرجة من جهة، علما أن المبدع ينتهي دوره بمجرد عرض الفيلم، حيث يتحول بدوره الى مجرد متلق، على أساس أن الفيلم بنية دلالية وتركيبية مستقلة بذاتها، خاصة و أن المبدع لا يمتلك كل الآليات الناظمة للخطاب، وأن قراءة الفيلم متعددة بتعدد الجمهور، وهو الأمر الذي يفسر مقولة المتنبي حين كان يسأل عن شعره كان ينصح السائل بالذهاب الى اللغوي ابن جني لأنه يراه أعرف منه بشعره.
زمن فيلم قيمة ساعة يناهز الساعة، بينما يعتبر زمن الحكي القصصي أطول، يطال تجارب وشهادات متعددة ومتنوعة عن يوميات نساء مصريات امتهن الدعارة رغما عنهن، يختلفن من حيث أسباب الامتهان القسري، لكنهن يجتمعن كلهن في قبول الذل والمهانة، ولملمة الجراح النفسي والجسدي.
اختارت مخرجة الفيلم المنحى الوثائقي كوضع اعتباري نوعي لسرد محكيات نسائية تعبر عن ظاهرة ميزوجينية مستفحلة في المجتمع، نساء تحكي بشكل فردي متناوب ومتواتر المعيش اليومي، يبئرن بالصوت الخارجي أو الخارج عن الحقل البصري أكثر من الصوت المصاحب، وربما آثرت المخرجة الاشتغال على السجل الصوتي خاصة اللفظي منه، كالمناجاة أو التداعي الحر الداخلي، وذلك لأسباب تقنية أكثر منها فنية أو جمالية، بمعنى أنه لم يكن على المستوى البروفيلمي للمحكي الوثائقي إمكانية الاشتغال المباشر على السجل اللفظي، خاصة وأن هذه الأصوات كانت بلا وجوه، تعرض ظهريا في الغالب، كل الاعترافات ظلت مجهولة المصدر او بالأحرى خفية الوجه، ولاضير في ذلك لأن المعاناة غير فردية وبالتالي فهي تصدق على الكثيرات، اللواتي وجدن داخل دوامة العهر، مقيدات بسلاسل ثقافية يرقصن ضمن دائرتها المغلقة، من القوادة والمخدرات والخمر، أي انهن يكترين أجسادهن للاستهلاك الجنسي الذكوري بايعاز أو بإكر اه من نساء يحترفن القوادة.
يتميز الفيلم بمقاطع دالة تزخر بأبعاد رمزية، هي أقرب إلى الإيحاء البصري منه الى التصريح اللفظي، نذكر على سبيل المثال رقصة المرأة فوق سطح مزين بملابس نسائية داخلية شفافة بألوانها وأشكالها المثيرة شبقيا، ترقص المرأة وسط هذا الديكور الذي تثوي خلفه رغبة شبقية، يكون الفاعل فيها ذكوريا والمفعول به وفيه أنثى فاقدة للحب، تتمرد على جسدها الخائن لحلم فتاة – عروس وجودية، والمجهض لأمومة مؤجلة أو موؤودة.

المقطع الثاني الذي يعبر بمهارة عن كعب المخرجة العالي، هو الذي صور عملية الإجهاض داخل غرفة يتقاسمها الطبيب والجزار، كلاهما يمارس تعذيبا، تقطيعا للحم، لحم آدمي يتساوى واللحم الحيواني، مادام المشتهي والفاعل في الحالتين حيواني الطبع، يتبضعان باللحم، كما أن تطاير قطع اللحم هو انزياح من بعد الصورة الأيقوني إلى بعده التجريبي والتجريدي، اللون الأحمر القاني..
الفيلم بوح جارح عبر باللفظ عن صور نفسية مركبة، زادها المستوى البصري أبعاد أخرى، فالفيلم لم يكرر مشاهد الاتجار بالجسد، بل ركب صورا موازية ذات إشارات رمزية، ركوب الحنطور بعد تزيين الحمار أو اراحته وتنظيفه، فضلا عن صور الحياة اليومية التي تؤطر معاناة فئات من المجتمع،…
إن اختيار السرد الوثائقي كان خجولا في طرح الموضوع، لاعتبارات ثقافية و ربما فنية وتقنية، لكن ادماج مشاهد تمثيلية والنزوع أحيانا نحو الوثائقي الروائي هو الأمر الذي أضفى على العمل قيمته التخييلية.
كان بين مستوى الصوت ومستوى الصورة تباين من حيث المعنى المباشر، في حين كان هناك تواز متناغم بين المستويين من حيث البناء الحكائي ومن حيث المعنى الإيحائي المصاحب.
وللتذكير فقد هيمن التصوير الخارجي على الداخلي، دون أن تفقد المحكيات الصغرى من حميميتها، فالخروج الى الشارع بمثابة فضاء حميمي، وتنوع من التمرد على سجن الغرف الحمراء، وهذا الاختيار السينمائي استلزم المزاوجة بين كاميرا موضوعية تمسح الأمكنة، تضامنا مع نزيف البوح والاعتراف، وبين كاميرا ذاتية وشبه ذاتية نرى من خلالها الخارج ولكن من الداخل، أي من دواخل البائحات، ومداخل بائعات الهوى، اعتمادا على لقطات مقربة ومتوسطة، داخل تأطير بصري شبه كلي، يظهر كل تفاصيل الخارج بالصورة، كما يشي بكل تفاصيل عذابات النساء بالصوت المجروح.
حافظ الفيلم على بنيته الإيقاعية، ونحا أسلوب المونتاج الأيديولوجي، الذي يغلب الفكرة على كل أشكال التقطيع من وصل وفصل، مما أفقد المحكيات جانبا من التطور الدراماتورجي،، كما أضعف البناء الدرامي لشخصيات….
كلامي مجرد انطباع بحاجة إلى إعادة مشاهدة الفيلم.
برافو للمخرجة منال خالد .
وشكرا للاعلامية فاطمة نوالي على حسن اختيارها للأفلام الندوات والضيوف، مهرجان يليق بمدينة بحجم الدار البيضاء.
وتحياتي للجنة التحكيم ولكل ضيوف المهرجان.
الى الدورة الرابعة إن شاء الله..