بقلم ع.العزيز كوكاس.. سياستنا بين واقع القحط والحنين إلى ظل الواحة

“الصحراء تتسع، الويل لمن يحمي الصحراء” زارادشت نيتشه

المتأمل لمشهدنا الحزبي والسياسي، والتبدلات التي أصبحت ملازمة له، يصل إلى استنتاج أننا انتقلنا من زمن كانت السياسة فيه مثل قطعة الجمر، وكان المناضلون يفتخرون في كل مناسبة بأنهم “القابضون على الجمر”، رغم أن السياسة هي لحظة حرية ولحظة حب، كما تقول حنا أرندت.. كانت السياسة لدينا رديف الموت، السجن، والمنفى والفقر بالمعنى المادي والصوفي أيضا، يشار إليها بـ”دربالة الشعب التي لا يلبسها من والى”، كانت السياسة موت برسم البطولة والشهادة على العصر ليرسم حياة الخلود لصاحبه وللأجيال القادمة، فقر يثريه الخيال ويغديه الحلم حيث يتسابق المناضلون إليه كما يتسابق الفراش إلى الضوء..

كانت السياسة رفيقة البدل والعطاء بلا انتظار جزاء ولا شكور، بلا طمع في منصب أو مغنم.. وكان المناضلون – في القمة وفي القاعدة على السواء- يزهدون في المناصب والمسؤوليات المذرة للدخل المادي والسياسي، وفي الملمات تجدهم مثل البنيان المرصوص متأهبين لمعانقة الموت من أجل فكرة آمنوا بها، من أجل زعيم وثقوا به وتحولوا إلى وقود لقاطرته.. ثم كل شيء انهار دفعة واحدة، زحف جراد “نخب” شعبوية وانتهازية وتقنوقراطية على نخيل هذه الواحة، ولم يتركوا لنا نخلة واحدة مهما اعوجت لا تبخل بظلها علينا، وذاب الطيبون الخلص منهم وسط هذا الزحف الذي لا يبقي ولا يذر.. تحولت الأحزاب السياسية ذات الامتداد الأصيل في المجتمع، إلى منتجع لتجمع عابري الانتخابات، وأشباه المتعلمين وأصحاب الشكارة ومقتنصي الفرص والمغانم والأتباع والمشايعين المستعدين للدفاع عن الغلط والدوس على كل شيء بغية التقرب من الزعيم الذي أغلق التنظيم الحزبي ووضع مفاتيحه في جيبه وجيب العائلة… وعمّ السياسة ببلادنا الجدب والمحل.

“إنه القحط.. القحط مرة أخرى، وفي مواسم القحط تتغير الحياة والأشياء، وحتى البشر يتغيرون، وطباعهم تتغير، تتولد في النفوس أحزان تبدو غامضة (…) وحين يجيء القحط لا يترك بيتا دون أن يدخله، ولا يترك إنسانا إلا وقد يخلف في قلبه أو في جسده أثرا”، هكذا وصف عبد الرحمان منيف القحط في رواية “النهايات”، والقحط مرتبط أكثر بالصحراء التي يوجد فيها السراب والصهد وكل حبة رمل منها تشكل متاهة، هو هذا بالضبط ما أصبح يعرفه المشهد الحزبي والسياسي ببلادنا، لقد زحف جراد أشباه الزعماء، والفيدورات الذين كانوا يحرسون أبواب المقرات الحزبية كما الحانات، على التنظيمات الحزبية وعلى باقي الشرايين التي تتغدى بها وعبرها السياسة، وعم الفساد وانتشر المفسدون في كل مكان.. إلا من رحم ربك ممن أصبحوا مثل الاستثناء الذي لا يتكرر وتوارى النزهاء إلى الخلف، وما تبقى من مثقفين رفعوا أيديهم عن قذارة السياسة لكي لا يساهموا في زحف الصحراء وحتى من صمد منهم لحين في مقاومة الرداءة والانحطاط الأخلاقي والسياسي وجدوا أن تيار السيل الجارف أقوى، فاستكانوا واعتصموا بحبل إبداعاتهم أو اهتماماتهم الثقافية والفكرية، وانتشر القحط في كل مكان من مشهدنا السياسي..

في رسائلها إلى الفيلسوفين مارتن هيدغر وكارل ياسبرس، كانت حنا أرندت تلح على ضرورة مقاومة الشمولية/التوليتارية والدكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية، وترى أن دور السياسة هو خلق الأمل لدى الناس وثقتهم بنجاعة العيش المشترك داخل الجماعة؛ إذ رأت حنا أرندت أن السياسة مبنية على التعدد البشري وهي فعل حر مهمته إقامة عالم شفاف لمجتمع بشري قائم على المساواة والتنوع والاختلاف والحرية كشرط للفعل والإنتاج، لذلك ميزت بين السياسة (la politique) وبين السياسي (le politique).

أقامت حنا أراندت تقابلا في تعريفها للسياسة بين الصحراء والواحة، وهي تحاول الإجابة على سؤال محوري: هل ما زال للسياسة معنى اليوم؟ واستقت أرندت مجاز الصحراء والواحة من خلال قراءتها لكتاب نيتشه “هكذا تكلم زرادشت”، الذي تحدث عن تمدد الصحراء التي تدل على المنزلة الحيوانية والعدم وزحفها على الوجود والقيم التي تتطلع البشرية إليها، واستعارت الصحراء مقابل الواحة للتمييز بين فضيلة الواحة في السياسة، حيث يؤمن الناس بالحرية والتقدم والتعالي عن الرغبات الحيوانية في الهيمنة والاستبداد وسيادة القيم النبيلة للفعل السياسي كما مثلتها فلسفة الأنوار، أي الارتقاء الإنساني للجماعة البشرية من غريزة الموت والتدمير والتسلط التي تجسدها الصحراء القاحلة التي تبتلع الأخضر واليابس بالاستبداد والحروب والدمار وترسيخ النزعة الحيوانية. وما يحد من خطر الصحراء هو الواحة، التي تنتصب كمجال للحياة والخصب والأمان..

إن استحضار المغاربة اليوم لرموز أمثال علال الفاسي، محمد بلحسن الوزاني، المهدي بن بركة، الفقيه البصري، عبد الرحيم بوعبيد، محمد بوستة، إسماعيل العلوي وعلي يعتة، وعبد الرحيم بوعبيد، عمر بنجلون، محمد بنسعيد آيت يدر، أبراهام السرفاتي… وغيرهم من رموز السياسة بالمغرب، هو ميل إلى قيم الواحة في السياسة، أي تلك الممارسة التي تخلق وعيا بالواقع وتحاول التأثير فيه من أجل تحسين شروط العيش فيه للمجموعة البشرية ووفق القيم الإنسانية المشتركة. هو أيضا محاكمة لهذا القحط الذي حول المشهد الحزبي والسياسة إلى صحراء قاحلة حيث لا غيث ولا مطر، ولا تسرح سوى الزواحف والحمر الوحشية والعقارب والذئاب، حتى الجمال لا أثر لها بيننا في ظل هذا الجدب العام.

ومن سوء حظنا أن جف ذرع السماء وذرع الأرض في آن، دخلنا سنوات المحل الطبيعي الذي أوصلنا إلى وضع خطير مع ندرة المياه، وفي ذات الآن جف ذرع المشهد السياسي الذي اتسعت صحراؤه وزحفت زواحفها على الأخضر واليابس، وتقلصت الواحات فيه حد الندرة، لكن البشر دوما يحنون إلى الأجمل بعد أن تسد أمامهم كل الأبواب، وأعتقد أنه كما وعينا بأزمة ندرة الماء، ونجاهد من أجل البحث عن السبل الكفيلة لتخفيف ثقل الأزمة، فإن المجتمع سيبحث عن نخب بديلة أكثر صدقية، وذلك عبر مقاومة كل أشكال الرداءة التي جاءت مع لهيب الصحراء الزاحفة لننعم برطوبة الواحة وعذوبة مناخها ونؤسس مشهدا حزبيا وسياسيا يكون فيه المناضلون والمواطنون عموما، أحرارا على مستوى الفعل والفكر… وهذا العالم الجديد يحتاج إلى سياسة جديدة، تنقلنا من قحط الصحراء الملتهبة إلى خصوبة الواحة المنعشة، فقط لكي نعيد الاعتبار للسياسة ونبلها، وللمشهد الحزبي والسياسي نضارته وخصوبته بدل هذا القحط الذي وصلنا إليه. (انظر كتاب حنا أرندت “معنى السياسة” ومقال المفكر التونسي السياسي زهير الخويلدي المنشور بموقع إيلاف في غشت 2007).