في صباح يوم السبت 25 فبراير عام 2017، ارتحل إلى جوار الله الأستاذ محمد حسن الجندي. بعد أسبوع واحد على توقيع عمله الأدبي الأخير: رواية السيرة “ولد القصور”، في المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء.

في ذكرى رحيله السادسة، عودة لبعض ما ميز مسار أحد أعلام الثقافة والفن البارزين في المغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

المُخضرمون من جيل الاستقلال والجيل الأول الذي تلاه يعرفون محمد حسن الجندي جيدا، صوته لا تُخطئه الأذن، ومُؤلفاته المسرحية التي كَتب، أَولها مسرحية “عدو المجتمع” التي اشتهرت بـ”الْمعَلّم اجْرِيدة” في نهاية الخمسينيات، جعلت من مفهوم الهوية في أبعادها الوطنية والثقافية والنفسية موضوعا مركزيا للبحث والتجريب، دون إغراق في أيٍّ من الاثنين، ما جعل مسرحه ـسواء أعمال فرقة الأمل التي أنشأها وهو دون العشرين مع الكاتب الراحل عبد السلام الشرايبي، أو مسرح الجندي في ما بعدـ يتميز بتوازنٍ شَحّ في غيره من التجارب المسرحية بعد الاستقلال، التي انقسمت ما بين مدارسَ نُخبوية تتعالى بلُغتها الرمزية وانتماءاتها السياسية على الجمهور وتُغدق في التغريب، وأخرى شعبوية، كثيرا ما تسقط في التسطيح والاستسهال وأحيانا التفاهة الفجة باسم الشعار: “هذا ما يريده الجمهور”.

كتب محمد حسن الجندي للجمهور عن مجتمعه بلغة شعرية حالمة حينا وفلسفية شعبية غيرِ مُتنطّعة حينا آخر، وكِلا المذهبين كان هدفهما بناء الوعي العام في مجتمع فَتِيّ ومُتغير، واستفزاز التفكير، لاَ المشاعر، باستخدام السرد القصصي وفن التشخيص لتعزيز قيم الجماعة، والاشتباك مع قيم أخرى للجماعة ذاتها بمُراعاةٍ ودون ادعاء؛ وإلى جانب كل ذلك وبعده، بهدف الإمتاع والمؤانسة، وهو المصطلح الذي كان يُفضّل استخدامه على كلمة “الترفيه” التي تختزل المجهود المُضني للعمل الفني بجعله ضربا من ضروب التسلية وكفى. وقد ظل الفنان ملتزما بهذا الخيار في كتاباته الإذاعية ثم التلفزيونية، الدّارجِ منها والفصيح، طيلة مسيرته، لأن لغة الفن هي وِعاؤه الذي ينضح بما فيه، إن ضَحُلَتْ ضحُلَ وسقط. لذا كان يُجيب محمد حسن الجندي كُلما سُئل أو سَمَحَ للمقال مقام بأنّ لغة الفنون لا يجوز أن تكون هي لغة الشارع.

وبقدر أهمية الهوية، التي كان النسيج المغربي في تلك المرحلة المتقدمة من تاريخ البلاد متناغما في تعاطيه مع تفاصيلها ومتصالحا مع فُسيفسائيتها التي تَلْحَمُها “الوطنية” ـ تساوى في ذلك السهل وأهله بالجبال وساكنيه، والحواضر بالبادية ـ قُلت بقدر حضور الهوية وتيماتها في كتاباته بقدر انحيازه الكبير للتاريخ والأسطورة وقُدرتهما الهائلة، عكس ما قد يعتقد البعض، على تحرير الوجدان، وهو أول أبواب تحرير العقل، ولعل ذلك هو دور الآداب والفنون الأسمى على الإطلاق. فقبل أن يكسر محمد حسن الجندي قيد المحلية الضيق ويخرج إلى براح المنطقة العربية مُمثلا لفن الأداء المغربي ومتصدرا بطولة أعمال تاريخية وإنتاجات كان يتم تصويرها في استوديوهات اليونان وأبوظبي، ومتنقلا لسنوات بين العراق والأردن ولندن التي التحق فيها بهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، التي قدم على مسارحها بتميز أشاد به نُقاد “الويست أند” شخصية عطيل، قبل ذلك بسنوات كان قد وجد في التراث الأدبي لمنطقتنا الغنية من العالم والممتدة ثقافيا من أقصى المغرب إلى آسيا الوسطى، وجد في هذا الزخم ضالته، فنهل منه مُقدما لجمهور الإذاعة حينها، كتابة وإخراجا وتمثيلا، سِيَر الأوليين بطريقته الخاصة التي مَغْرَبَتْ عنترة ابن شداد، وألف ليلة وليلة والملك الحِمْيَرِي سيف بن ذي يزن الذي ظل مرادفا لاسمه لعُقُود.

هذا الميل للتاريخ والآداب القديمة كان يرى فيه تهذيبا للمُنْتَجِ الفني، يضيف إلى قيمتيه التقنية والجمالية قيمة أخرى أثمن وأبقى. وبالحديث عن الأزلية وغيرها من أعمال محمد حسن الجندي التي كتبها للإذاعة لا بد من الإشارة إلى أنه لم يتوقف أبدا عن ترديد أن المستقبل للمسموع، وأن الشاشات صغيرِها وكبيرها لن تعوِض أبدا متعة المشاركة في عملية الإبداع التي يشعر بها المستمع الذي يطلق للخيال عنانه، فيرسم ملامح الوجوه والأماكن منافسا وأحيانا متفوقا حتى على تصورات مُؤلفيه؛ وقد تميز منهجه في الكتابة الإذاعية خلال الستينيات والسبعينيات بخاصية غابت عند غيره، إذ استخدم تقنيات الولوجيات السمعية في مرحلة لم يكن قد انتُبِه أو اهتُدي لاستخدامها بعد، حتى إن بعض مستمعي أعماله من كفيفي البصر كانوا يعتقدون أنه لا بد كفيف أيضا حتى يدرك متطلبات المستمع غير المبصر ويجعله، شأنه شأن غيره، قادرا على خوض تجربة الاستماع بشكل غامر وعلى حد السواء.

وإذا كانت إسهامات محمد حسن الجندي كممثل وكاتب ومخرج معلومةً عند المهتمين من المتابعين، والذين قد يتذكرون تجسيده لأبي جهل في فيلم الرسالة لمصطفى العقاد، ولرستم في فيلم القادسية لصلاح أبو سيف، أو آخر أدواره “عتبة بن ربيعة” في مسلسل عمر لحاتم علي، فإن قليلا من يعرف أنه ترأس خلال العقد الأخير من القرن العشرين مندوبية الثقافة في جهة مراكش وأحوازها والأقاليم الواسعة المحيطة بها، وكان مسؤولا عن تدبير الشأن الثقافي فيها.

اختار الفنان أن يكون مكتبه في دار الباشا الكلاوي التي لم يكن المراكشيون زَمَنَ الاستعمار يجرؤون على المرور بجوار أسوارها.. فتحها محمد حسن الجندي لتصبح حاضنة للمبدعين في مجالات الكتابة والتشكيل والمسرح وغيرها من مضامير الفكر والثقافة؛ كانت متحفا مشرع الأبواب في وجه الجميع. في الصحن الداخلي تُقام ندوات فكرية مفتوحة للعموم يُغني نقاشاتها عن التاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم الإنسانية مفكرون مغاربة وأجانب. وفي الحديقة الداخلية للرّياض كانت تُنصب دوريا خشبة مسرح في الهواء الطلق تعتليها فرق محلية ودولية.

قبل ثورة تقنيات التواصل الرقمية التي انكمش بها العالم، كان العالم يُطل على أهل مراكش عبر دار الباشا. والذين أمضوا طفولتهم في مراكش خلال فترة التسعينيات، وأنا منهم، يذكرون الأثر العميق الذي تركته هذه النهضة الثقافية على صغرها في النفوس وانعكاسها على الوعي بقيم الجمال في المحيط والعالم، على الرغم عن قلق هنا واختلاف قد لا نفهمه دائما هناك. نهج محمد حسن الجندي كان محاولة دمقرطة الثقافة التي تبدأ أولا بإخراجها من خلف الأسوار وكسر صنم النخبوية وجعلها متاحة لكل طالب لها أو باحث عنها لتتحول مع الوقت من ترف ورفاهية أو تسلية عابرة إلى جزء أصيل من يوم الفرد.

الحديث عما يميز مسار وشخصية محمد حسن الجندي لا يتسع له مقالٌ وحيدٌ في ذكرى ميلاد أو رحيل، فالرحلة بينهما كانت أغنى وأجزل من ذلك بكثير، ولكن كلتا المناسبتين فُرصة للتذكر والاحتفاء بعمل نحتسبه عند الله طيبا، وبإرث والدي الحقيقي الذي كان دائما يتمنى ويرجو أن يُخلّفه وراءه: ذِكرٌ طيب. رحمةُ الله وسلامه عليه

 

حليمة الجندي