عبد العزيز كوكاس ..البعبعان
”يتحدث الناس كثيرا عن المرضى بالوهم، أما الأصحاء بالوهم مثلي، فلا أحد يهتم بهم” ساشا غيتري
ظللت زمنا طويلا مستغرقا في التفكير.. أتأمل شوارد الفكر ودُرَر المعنى، وأمامي هذا البياض الممتد مثل فم تنِّين أسطوري أو متاهة عصية عن التملك، بياض مخيف مثل كفن الموتى يتحدَّاني بأعين صارمة بل وقحة.. فجأة سمعت “بعبعة” أي ثغاء، فهممت بفتح الباب، فلم أجد غير ذاتي، عدت مسرعا إلى المرآة أتحسس وجودي لعلي أنفض عني بقايا أضغاث أحلام!
تأملت المرآة مليا، فبهتت لما رأيتها تعكس كبشا مليحا أقرن الذي هو أنا، رفعت يدي اليمنى نحو عيني لأفركها وأتحقق مما أنا فيه، فرفع الكبش المنتصب في المرآة يده اليسرى، نطقت بلغة الضاد لأزيل عني هذا المسخ الكافكاوي، فرد الماثل أمامي بـ”بعبعة” صادحة، توقفت مذهولا.. عندها خاطبني بود زائد:
- ألتمس منك استضافتي في هذه الزاوية، بعد أن هزأ بنا زميلك العربي الصبان، وسأنجيك من ورطتك أمام هذا البياض، ولا بأس أن تسمي عمودك مرحليا “البعبعان الممكن”.. علاش لا؟ ياك حنا كلنا قابطنا الرادار هاذ الأيام..
فانتفضت مستنكرا هذا الاقتراح السخيف:
- كيف؟ وهذا العمود مخصص للخوض في أحوال البلاد والعباد، التي تزعج أصحاب الحال والأحوال.. فكيف له أن يستضيف كبشا بسيطا مثلك؟ و…
لم أكد أُتم كلامي حتى ارتفع صياحه وثغاؤه احتجاجا على وقاحتي، فاعتذرت له وأبلغته كيف أني لم أقصد أن أجرح مشاعره (هل للأكباش مشاعر؟) وعندما تأكد من حسن نيتي وسلامة طويتي، وفهم أني أفضله على أكباش كثيرة تمرح باطمئنان بيننا في هذا البلد السعيد، أخذ الكبش الأقرن يدافع على سلامة موقفه، فقلت:
- لا بأس ! لا صوت يعلو فوق صوت الأكباش هذه الأيام، فالخرفان ملأت الدنيا بالثغاء وشغلت الناس عما عداها من الأمور!
اعتدل في جلسته وسط المرآة ثم ثغثغ قائلا:
– لقد كان لنا -نحن بني الأكباش- دوما فضل عليكم عبر التاريخ، منذ ارتضانا الله سبحانه وتعالى أن نفتديكم بدمائنا من أجل روح نبيه إسماعيل عليه الصلاة والسلام، لكن لا بأس فقد أصبحتم أنتم البشر اليوم تفتدوننا، وأصبحنا نأخذ حيزا وافرا من تعبكم وجهدكم ومالكم…
فقاطعته مستغربا:
- كيف؟
- لقد أصبح المستضعفون منكم يفتدوننا بأرواحهم، ويبيعون كل غال ونفيس من أجل خطب ودنا، لعل ثغاءنا يملأ منازلهم ويُدخل الفرحة لقلوب أطفالهم، ونحن مدينون لكم اليوم لأنكم تَقْتتلون فداء لنا!
وعلى التو فكرت في آلاف البسطاء الدائخين في متاهة “البَعْبَعان” وباقي “الحُرَّات” اللواتي تجعن ولا تأكلن بأثدائهن لحم الخرفان التي شغلت عموم الناس هذه الأيام بفرحة عيد لم يزرنا حتى اليوم بالشكل الذي نشتهيه، وأقارن بينها وبين هذا الاطمئنان الذي أبداه البعض لشهادة بعض الأجانب حول هذا البلد الاستثنائي، من طرف المطمئنين اليوم اللاهثين نحو شهادة حسن السيرة والسلوك.
فرق شاسع بين شهادة “حسن سيرة” اقتصادنا المغربي الذي حولت مؤسساته الكبرى جميع منتوجاتها نحو البيع بـ”الدِّيطاي” عوض “الجملة”، وهو وحده علامة أزمة، وبين معاناة آلاف الموظفين والعمال البسطاء المكتوين بلظى جحيم الفقر والحرمان وهم يواجهون فرحة مقدسة لا يجدون إليها سبيلا.
فيكفي النظر إلى عروض “الكريدي” لنعرف كيف يُحتفل عندنا بالعيد وما يترتب عن هذا العيد من ”أقساط” و”فوائد”، ونقارنها بذلك الاطمئنان لما قاله فينا الأجانب لنعرف حالة اقتصادنا.