بقلم جمال المحافظ :مسار الإضراب ما بين الطرد و الاقتطاع

في الوقت الذى يشهد قطاع التعليم اضرابات واسعة. تقفز الى الذهن حكاية أول اضراب شنه سنة 1960 الموظفون بوزارة التربية الوطنية والشبيبة والرياضة. والذى كان من نتائجه ليس الاقتطاع من الأجر كما يتم التلويح به اليوم بل الطرد من العمل وفي نفس الوقت الحرمان من الأجر. وهو ما استهدف محمد الحيحي ( 1928 – 1998 ) مربي الأجيال.

طرد وبدون أجر

فنتيجة مشاركته في إضراب قطاع الوظيفة العمومية يوم 25 مارس 1960. قررت وزارة التربية والوطنية والشبيبة والرياضة التي كان يشتغل في حظيرتها. اتخاذ قرار الطرد في حقه، مع حرمانه من أجرته الشهرية. وانطلاقا من ايمانه بدولة الحق بادر الحيحي الى تقديم طعن ضد قرار توقيفه. دافع فيه عن الحق في ممارسة الإضراب. والغريب أن الحيحي، كان الموظف الوحيد الذى لم يسمح له باستئناف عمله وتوقيفه من بين المشاركين في هذا الإضراب الشهير المنظم بعد مرور أربع سنوات على نيل الاستقلال.

شطط صريح

ولم يقف محمد الحيحي مكتوف الأيدي. ازاء ما تعرض له، بل أكد في طلب الطعن الذي تقدم به أمام الغرفة الادارية بالمجلس الأعلى. على أن ما تعرض له يشكل شططا صريحا في استعمال السلطة واجراء عقابيا. كما شدد على أن القرار يعد خرقا للظهير الصادر بشأن النظام الأساسي للوظيفة العمومية وكذلك للضمانات التأديبية في الظهير المتعلق بالنقابات المهنية. كما ارتكز على دوافع لا علاقة لها بالحفاظ على مصالح الخدمة العمومية.

الخدمة العمومية

كما بين محمد الحيحي الرئيس السابق لكل من الجمعية المغربية لتربية الشبيبة AMEJ. والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان. أن قرار وزارة التربية الوطنية والشبيبة والرياضة، ارتكز على دوافع لا علاقة لها بالحفاظ على مصالح الخدمة العمومية.

غير أن المحكمة، لم تعر أي انتباه لدفوعات الحيحي صهر الشهيد المهدي بن بركة. وتبنت كل ما ذهبت إليه الوزارة في قرارها القاضي بطرد وإلغاء عقد العمل والتشطيب على اسمه من لائحة الموظفين مديرية الشبيبة والرياضة.

وهكذا اعتبرت الغرفة الإدارية لدى المجلس الأعلى في هذا الحكم الشهير بـ”أن الموظفين عند إضرابهم عن العمل جماعيا لا يرتكبون فقط خطأ شخصيًا شنيعًا. بل يضعون أنفسهم خارج نطاق تطبيق المقتضيات القانونية المتعلقة بالوظيفة العمومية. تلك المقتضيات التي تضمن حقوقًا يقابلها الالتزام بالممارسة الفعلية والمستمرة للوظيفة باستثناء التغيبات المبررة..”.

الحق في الاضراب

وبذلك، يكون الحيحي أول مواطن مغربي يقاضى الدولة سنة 1960. من خلال وزارة التربية الوطنية والشباب والرياضة من أجل الشطط في استعمال السلطة. مع العلم ان ذلك تزامن مع مرحلة سياسية تميزت بعدم وجود دستور وبإقالة حكومة عبدالله ابراهيم، في 20 ماي 1960. وتأسيس حكومة برئاسة المغفور له محمد الخامس ونائبه ولي العهد آنذاك الراحل الحسن الثاني.

 

الحيحي والقادري

وفي جانب من شهادة يتضمنها كتاب حول مسار محمد الحيحي على المستوى التربوي والسياسي والحقوقي والجمعوي. يوجد قيد الإنجاز أتولى إعداده رفقة الفاعل المدني والحقوقي عبد الرزاق الحنوشي. إن اسم الحيحي كان يتردد كثيرا في دروس القانون الإداري التي كانت تُلقى برحاب كليات الحقوق المغربية. وخاصة تلك المحاضرات التي كان الأستاذ المرحوم عبد الرحمان القادري يلقيها علينا بألمعية وسلاسة في التعبير والتبليغ. الرجلان (الحيحي – القادري) كانا يعرفان بعضهما البعض، ويناضلان في ذات الحركة السياسية. ويتعاونان على أكثر من صعيد، ويُقَدِّرُ كل منهما الآخر أحسن تقدير، يقول محمد الساسي الاستاذ الباحث في الحقوق في جانب من شهادته التي يتضمنها هذا المؤلف الجديد حول محمد الحيحي الذى يتضمن نحو 400 صفحة من الحجم المتوسط على منجز الفقيد من خلال ما يناهز 50 شهادة لفاعلين في حقول متعددة .

موقف محافظ

واعتبر الاستاذ الساسي بأن هذا الموقف المحافظ، استند في غياب الدستور. إلى الفصل الخامس من مرسوم 2 فبراير 1958 الذي ينص –في ما يتعلق بالموظفين العموميين- على أن “كل توقف عن العمل بصفة مدبرة وكل عمل جماعي أدى إلى عدم الانقياد بصفة بينة يمكن المعاقبة عليه خارج الضمانات التأديبية”. وقال في هذا الصدد كنا نتابع محاضرات الأستاذ القادري بشغف كبير وبتعطش لسماع الكثير من التفاصيل الهامة التي تهم قضية الإضراب في الوظيفة العمومية في المغرب. وفي البلدان الأخرى وخاصة بالنسبة إلى فرنسا..

مواطن شجاع

وأوضح الساسي أنه كان ذلك مناسبة لكي تحصل لنا قناعة بأن محمد الحيحي مواطن شجاع وحريص على المطالبة، بحقوقه والدفاع عن مشروعية الإضراب في الوظيفة العمومية. وتمنى الكثير منا –نحن الطلبة آنداك- أن تُتاح لنا فرصة التعرف المباشر على الرجل والحصول منه على مزيد من المعلومات والملابسات التي لها علاقة بالدعوى القضائية التي رفعها.

مرحلة مخاض

وفي شهادة مماثلة استحضر الأستاذ الباحث عبد الرحمن حداد عضو المكتب التنفيذى السابق بالجمعية المغربية لتربية الشبيبة. عندما كان طالبا في تسعينات القرن الماضي، اليوم الذي أحال أستاذ القانون الإداري الطلبة على الاجتهاد القضائي الصادر عن الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى في 17 أبريل من سنة 1961. وذكر بأن تلك المرحلة كانت مرحلة مخاض لدولة ما بعد الاستقلال. فيها ستوضع قواعد علاقة السلطة بالحرية والدولة بالمجتمع. وهي التي ستحدد مآلات وحدود العمل السياسي والمدني. وهي التي سترسم خارطة السلطة، اقتساما أو احتكارا.

ونتيجة نضاله ضد القمع، ولمواقفه السياسية، تعرض للطرد من الوطيفة العمومية خلال الاضراب الشهير بقطاع الوضيفة العمومية. يقول حداد مشيرا الى أن ذلك كان أول حدث من هذا النوع يعرفه المغرب المستقل. كان في حقيقة الأمر حدثا تاريخيا الأول في مجال الاضراب، وقرار الطرد الذي تعرض له كان آنذاك تراجعا خطيرا الى الوراء. في المقابل اعتبر من طرف السلطة والقضاء بأنه ” اخلال” بسير المرفق العمومي لقد كان سياسي.

الحق والكرامة

وأوضح أن محمد الحيحي ذهب إلى المحكمة لا ليستعيد حقا ولا ليسترجع منصبا وظيفيا وأجرا شهريا. بل ذهب ليقدم، إجاباته عن كل تلك الأسئلة وليعلن عن انتصاره لمشروع مجتمعي بديل يقوم على الكرامة وعلى الحق وعلى المواطنة. معركة الرجل كانت أكبر من أن يقول إن للبيت ربا يحميه، وينزوي في الغياب.

بناء الوطن

بلجوئه إلى المحكمة، كان محمد الحيحي يحمل حلم بناء الدولة الحديثة. بما هي إطار مؤسساتي يحكم علائقه القانون لا الحسابات الشخصية ولا التموقعات السياسية. كان الرجل مسكونا بالبناء: بناء الوطن، بناء الطريق، بناء الفعل الجمعوي والحقوقي المرتكن إلى المبادئ. وبناء العمل السياسي الموسوم بالأخلاق. ذهاب محمد الحيحي إلى المحكمة في زمنه ذاك كان ليضع حجرا من أحجار أساس كل هذه البناءات حسب حداد.

وأضاف هكذا أراد محمد الحيحي أن يساهم في تأسيس شأن عام يقوم على سيادة القانون وعلى صون الحقوق وعلى ثقافة المساءلة والمحاسبة. وهكذا أيضا علمنا محمد الحيحي أن اللجوء إلى القضاء سلوك حضاري وعلمنا أهمية حضور قضاء مستقل، عادل وجريء في قيام دولة حديثة.

حدث تاريخي

ومن جهته أرجع الأستاذ الجامعي عبد القادر باينة في جانب من شهادته. أن الطرد الذي تعرض له الحيحي من الوظيفة العمومية. كان في حقيقة الأمر نتيجة نضاله ضد القمع والظلم. ولمواقفه السياسية الجريئة، موضحا أن الدعوى ضد الدولة التي رفعها الحيحي كانت حدثا تاريخيا الأول في مجال الاضراب.

حسابات سياسية

وأضاف أن قرار الطرد وصف آنذاك بـ” التراجع الخطير الى الوراء، وتصفية حساب سياسي، من أجل جعل محمد الحيحي عبرة للآخرين الذين قد يحاولون بدورهم شن الاضراب مستقبلا”. إلا أنه نتيجة تطور الحركة النقابية، فإن ممارسة الاضراب أضحى حاليا متاحا، على الرغم من ربطه ببعض الإجراءات. مع العلم أن القانون التنظيمي الخاص بممارسة الاضراب لم يصدر منذ قضية الحيحي سنة 1960 والى غاية اليوم.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الأستاذ باينة قال لا يمكن اعتبار الاضراب غير شرعي ومحرم في الوظيفة العمومية. وكل قرار يعنى غير ذلك، فهو غير شرعي ومخالف للدستور. كما أن ظهير 24 فبراير 1958 في حالة الحيحي لم يمنع ممارسة حق الاضراب، ولكن اعتبره محرما على مجموعة من فئات الموظفين التي تمنع أنظمتهم الأساسية بصراحة حق الاضراب الذي يظل حقا مشروعا لكافة الموظفين.

النفس الطويل

اليوم، والأستاذ محمد الحيحي في الهناك. كم نحتاج لروح مشروعه لتذكرنا أنه بعد أكثر من ستين سنة على القرار القضائي الشهير. ورغم التنصيص الدستوري المتكرر على الحق في الإضراب، لم يصدر قانون الإضراب بعد. نحتاج روح محمد الحيحي لتذكرنا أن مسيرة البناء تتطلب نفسا طويلا وترافعا جماعيا وذاكرة لا تسمح بالنسيان أو التعب، كما خلص الى القول الأستاذ عبدالرحمن حداد.