تعرف المغاربة على مفهوم “النموذج التنموي” أول الأمر عن طريق الخطاب الملكي الذي ألقاه الملك محمد السادس بتاريخ 21 شتنبر 2010 في قمة تحقيق أهداف الألفية للتنمية بنيويورك حيث تحدث عن نموذج تنموي بشري مستدام، كما ورد هذه المفهوم في دراسة أنجزها “المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية” سنة 2012 تحت عنوان “ديمومة النموذج التنموي خيار الاقتصاد الأخضر”، ووردت كذلك في دراسة أنجزها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في أكتوبر 2013 تحت عنوان “النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية”، إلا أن هذا المفهوم سيصبح أكثر تداولا من خلال متابعة أشغال اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي التي قدمت عبر رئيسها تقريرها العام لملك البلاد بتاريخ 25 ماي 2021، حيث أمرها هذا الأخير بنشر التقرير وإجراء عملية واسعة لتقديم أعمالها وشرح خلاصاتها وتوصياتها للمواطنين ومختلف الفاعلين. وقد تمكن الرأي العام الوطني على إثره من التوصل بالتقرير العام مكونا من 152 صفحة، وملخص له مكون من 16 صفحة، إلى جانب ثلاث ملاحق، هي:

تقديم نتائج الاستماعات والمساهمات المنظمة من طرف اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي (80 صفحة).

مجموع المذكرات الموضوعاتية والرهانات والمشاريع المقترحة في إطار النموذج التنموي (326 صفحة).

لائحة جلسات الاستماع، المساهمات وأنشطة اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي (98 صفحة).

كانت هذه هي المخرجات الورقية والالكترونية التي نشرتها اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، فيما تنوعت التحليلات والإضافات التي عبر عنها رئيس اللجنة وبعض أعضائها سواء للفاعلين ولمسؤولي المؤسسات التي تم التواصل معهم أو عبر خرجاتهم الإعلامية ومشاركاتهم في بعض الندوات واللقاءات التي تناولت موضوع التقرير وسير أشغال اللجنة الخاصة.

هذه اللجنة الموضوعاتية التي عين الملك بتاريخ 19 نونبر 2019 شكيب بنموسى رئيسا لها وهو وزير داخلية سابق وسفير المملكة لدى جمهورية فرنسا، كما قام بعدها وبتاريخ 12 دجنبر 2019 بتعيين بقية أعضاء اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي التي تتشكل من 35 شخصية من المسؤولين والخبراء والأكاديميين، وأوكل لها مهمة إعداد تصور في هذا الخصوص، بعد الوقوف على الأوضاع الحالية في إطار من الموضوعية والمقاربة النقدية، واستحضار مطالب المواطنين، والمتغيرات التي يفرضها المحيط الدولي.

والتي منذ تعيينها، قامت اللجنة بعدة خطوات في اتجاه وضع تصور متكامل للنموذج التنموي المتطلع إليه، ويمكن الإشارة هنا إلى كرونولوجيا تحركات اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي من خلال هذه التواريخ الهامة:

13 أكتوبر 2017: توجيه الملك خلال افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية، دعا من خلاله إلى النظر في النموذج التنموي.

أكتوبر 2017-يوليوز 2019: انخراط كافة القوى الحية بالبلاد في النقاش الوطني حول النموذج التنموي، وقد قدم السياسيون والخبراء الاقتصاديون والمجتمع المدني العديد من المقترحات.

29 يوليوز 2019: إعلان الملك في خطاب العرش عن قرار إحداث لجنة خاصة بالنموذج التنموي.

19 نونبر 2019: تعيين الملك شكيب بنموسى رئيسا للجنة الخاصة بالنموذج التنموي.

12 دجنبر 2019: تعيين الملك أعضاء اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي وعددهم 35 عضوا.

16 دجنبر 2019: انطلاق أشغال الاجتماع الأول للجنة الخاصة بالنموذج التنموي بمقر أكاديمية المملكة.

2 يناير 2020: انطلاق جلسات الإنصات (أحزاب/ نقابات، جامعات غرف مهنية/ مؤسسات دستورية، مجموعات مهنية لبنوك المغرب، مهندسين وخبراء في التعمير، الاتحاد العام لمقاولات المغرب، الائتلاف المغربي لحقوق الإنسان، مجموعات تلاميذ وطلبة، رئيس النيابة العامة…)

ابتداء 27 دجنبر 2019: انطلاق ورشات العمل والموائد المستديرة.

27-29 دجنبر 2019: انطلاق اللقاءات مع المواطنين في الجهات. (استهلت بلقاء مع طلبة جامعة محمد الخامس وطلبة جامعة أبي شعيب الدكالي…).

27-29 دجنبر 2019: انطلاق اجتماعات اللجنة على شكل خلوات من ثلاثة أيام، استمرت بشكل شهري في نهاية كل من يناير وفبراير 2020، لتتوقف لعدة أشهر قبل أن تستأنف الخلوة الرابعة في أواخر يوليوز (23-26 يوليوز 2020)، لتتوقف من جديد إلى غاية 3 أكتوبر حيث نظمت اللجنة ندوة حول الصيغة ما قبل الأولى للتقرير، وبعدها جلسة مغلقة بالصويرة في الفترة ما ين 18 و20 دجنبر 2020.

كذلك اعتمدت اللجنة مجموعة من الندوات الموضوعاتية انطلاقا من 10 ماي 2020، والتي ناقشت مواضيع الثقافة الأمازيغية والارتقاء الاجتماعي ومسألة الماء والمقاولة والشركات والتنمية والنقل البحري والجهوية المتقدمة… حيث بلغ عدد الندوات ما بين الفترة 10 ماي 2020 و23 يوليوز 2020 سبعة عشرة (17) ندوة موضوعاتية معتمدة.

 

كذلك نظمت اللجنة جلسات عامة ابتداء من 16 مارس 2020 حول مواضيع وقضايا هامة، من قبيل: الصحة والتغطية الصحية، الطاقة والمقاولة الاجتماعية، الحماية الاجتماعية: التنويع والابتكار، الثقافة والتعليم، دولة الحق والقانون… حيث بلغ عدد الجلسات العامة في الفترة ما بين 16 مارس 2020 و25 شتنبر 2020 أربعة وعشرين (24) جلسة عامة.

 

8 دجنبر 2019: دشن رئيس اللجنة أولى اللقاءات مع وسائل الإعلام الوطنية، كما تم بتاريخ 13 أبريل 2020 إطلاق الأرضية الرقمية www.csmd.ma . وقد بلغ عدد اللقاءات مع وسائل الإعلام الوطنية خمس (5) لقاءات إلى غاية آخر لقاء بتاريخ 23 دجنبر 2021.

 

بتاريخ 19 أبريل 2020: أعلنت اللجنة عن حصيلة مرحلية تضمنت تنظيم 180 جلسة واستضافة 1200 شخص، وتلقي 6200 مساهمة (عبارة عن مراسلات مكتوبة، مساهمات رقمية، مخرجات اللقاءات المواطنة، مساهمات التلاميذ، المشاريع التي تقدم بها الطلبة، الندوات المعتمدة).

 

بلاغ اللجنة بتاريخ 23 نونبر 2020: كشفت فيه عن تنظيم 70 جلسة استماع و113 ورشة عمل و35 جلسة استماع مواطنة عُقِدت في مختلف مدن المملكة، مشيرة إلى أن اللجنة تنقلت إلى أكثر من 30 موقعا داخل المغرب، وأن الجلسات والورشات مكنت من الالتقاء والاستماع إلى ما يفوق 10.000 شخص.

إحصائيات اللجنة حسب آخر زيارة للموقع بتاريخ: 14 فبراير 2021: 9719 شخص في تفاعل، 6600 اقتراح مكتوب، 30 زيارة ميدانية، 113 ورشة عمل، 70 جلسة استماع.

 

ومعلوم أن عمل اللجنة الخاصة قد تأثر بالظرفية الاستثنائية التي عرفها المغرب والمعمور إثر تفشي جائحة كوفيد 19، حيث توقفت أشغالها حضوريا لمدة، مما جعل عاهل البلاد يمدد لها لستة أشهر أخرى، عرفت تحيينا لعديد من المؤسسات الحزبية والنقابية والمدنية لمذكراتها ومقترحاتها بناء على ما خلفته الجائحة وحالة الطوارئ الصحية من تأثيرات سلبية على الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.

 

وفي آخر بلاغ للجنة الخاصة للنموذج التنموي بتاريخ 23 نونبر 2020، كشفت عن قرب انتهائها من مسلسل المشاورات حول النموذج التنموي الجديد، الذي كانت قد أطلقته في دجنبر 2019، مؤكدة أن رئيس اللجنة وأعضاءها دخلوا مرحلة إعداد التقرير التركيبي لرفعه إلى الملك محمد السادس بداية شهر يناير من 2021، الشيء الذي تم فعلا بتاريخ 25 ماي الماضي.

 

ولتسليط الضوء حول المفكر به والمفكر فيه واللا مفكر فيه في النموذج التنموي المقترح، سأعتمد على المنهجين النسقي والتحليلي لمقاربة المدخلات التي تتمثل في السياقات والظروف والحاجات التي فرضت التفكير في نموذج جديد للتنمية ببلادنا، وتحليل المخرجات التي تتمثل في الخلاصات والتوصيات التي انبثقت عن أشغال هذه اللجنة (مبحث أول)، وكذلك سأسلط الضوء على اللا مفكر فيه في سير الإعداد لهذه الخلاصات والنتائج والتوصيات المعلنة عنها (مبحث ثاني).

 

المبحث الأول: المفكر به والمفكر فيه في النموذج التنموي الجديد.

على إثر استمرار موجات متنوعة من الاحتقان الاجتماعي التي واكبت الدينامية التي عرفها المغرب وجواره في سنة 2011، وظهور جيل من الاحتجاجات التي غلب عليها الطابع المجالي والفئوي (حراك زاكورة، الريف، احتجاجات الأساتذة المتدربين والمتعاقدين، الأطباء والممرضين..)، خرج علينا الملك محمد السادس بخطاب ذي حمولة نقدية، وذلك خلال افتتاح الدورة البرلمانية الأولى من السنة التشريعية الثانية، عبر فيه عاهل البلاد صراحة عن فقدان النموذج التنموي المعمول به لمشروعيته ولقيمته، حيث قال في خطاب 13 أكتوبر 2017: “إذا كان المغرب قد حقق تقدما ملموسا، يشهد به العالم، إلا أن النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم، غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية.”

 

ولعل فشل النموذج التنموي الوطني ساهمت فيه عدة عوامل، منها أساسا اللجوء إلى دعم الاستهلاك باللجوء إلى سياسة الاقتراض، حيث ظل مرتكزا على دعم الاستهلاك كرافعة للنمو الاقتصادي مما أدى إلى ثورة حقيقية في حجم القروض، وحقق نتائج باهرة خلال سنوات قليلة، لكنه سرعان ما اصطدم بغياب مقومات الاستدامة نظرا لمبالغة الدولة في الاعتماد على دعم الاستهلاك مما جعل ديون الأسر عبئا عليها عوض أن يكون رافعة للتنمية.

 

إضافة إلى أن الاقتصاد الوطني تأثر سلبا بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية التي عرفها العالم سنة 2008، إذ طفت على السطح علامات الفقر والهشاشة حيث وقف تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنتي 2016 و2017 والصادر مؤخرا، بخصوص تصاعد وتيرة دين خزينة الدولة إلى مستويات قياسية، إذ بلغ مع نهاية سنة 2017 ما يناهز 692.3 مليار درهم، بنسبة 65.1 في المائة من الناتج الداخلي الخام. بالإضافة إلى أن الحجم الإجمالي لمديونة القطاع العام ارتفع من 918.2 مليار درهم سنة 2016 إلى 970 مليار درهم مع متم 2017، أي بزيادة 51.8 مليار درهم في ظرف سنة واحدة. وعليه فإن حجم المديونية واصل منحاه التصاعدي خلال الفترة ما بين 2010 و2017، إذ انتقلت مديونية الخزينة من 384,6 مليار درهم إلى 692,3 مليار درهم، والمديونية العمومية من 534,1 مليار درهم إلى 970 مليار درهم، أي بتحملات إضافية بلغت 435,9 مليار درهم، بمعدل يناهز 55 مليار درهم سنويا.

 

من جهة أخرى، أكد تقرير للبنك الدولي أن المستوى المعيشي للمغاربة يعادل حاليا نظيره لدى الفرنسيين في عام 1950، ولدى الإيطاليين في 1955، والإسبان في 1960، والبرتغاليين في 1965 “. وأضاف التقرير أن المغرب يواجه ضرورة الاستجابة لتطلعات الشباب في الولوج بشكل أسرع إلى مستوى معيشي يقترب من المستوى المعيشي في البلدان الأكثر تقدما. ودعا البنك الدولي المغرب إلى تعزيز العقد الاجتماعي، القائم على النهوض بمجتمع منفتح، وإعادة تركيز عمل الدولة على مهامها السيادية، وتنمية الرأسمال البشري، وتعزيز الرأسمال الاجتماعي.

 

ولعل هذه العوامل كلها هي ما دفعت الملك إلى القول: “إن المغاربة اليوم، يحتاجون للتنمية المتوازنة والمنصفة، التي تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وخاصة للشباب، وتساهم في الاطمئنان والاستقرار، والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية، التي يطمح إليها كل مواطن. كما يتطلعون لتعميم التغطية الصحية وتسهيل ولوج الجميع للخدمات الاستشفائية الجيدة في إطار الكرامة الإنسانية”.

 

كما استطرد: “والمغاربة اليوم، يريدون لأبنائهم تعليما جيدا، لا يقتصر على الكتابة والقراءة فقط، وإنما يضمن لهم الانخراط في عالم المعرفة والتواصل، والولوج والاندماج في سوق الشغل، ويساهم في الارتقاء الفردي والجماعي، بدل تخريج فئات عريضة من المعطلين. وهم يحتاجون أيضا إلى قضاء منصف وفعال، وإلى إدارة ناجعة، تكون في خدمتهم، وخدمة الصالح العام، وتحفز على الاستثمار، وتدفع بالتنمية، بعيدا عن كل أشكال الزبونية والرشوة والفساد.”

 

في ذات الخطاب، وجه الملك الدعوة إلى الحكومة والبرلمان، باعتبارهما سلطتين تنفيذية وتشريعية على التوالي، وكذلك ومختلف المؤسسات والهيئات المعنية، كل في مجال اختصاصه، لإعادة النظر في نموذجنا التنموي لمواكبة التطورات التي تعرفها البلاد. إذ قال: “إننا نتطلع لبلورة رؤية مندمجة لهذا النموذج، كفيلة بإعطائه نفسا جديدا، وتجاوز العراقيل التي تعيق تطوره، ومعالجة نقط الضعف والاختلالات، التي أبانت عنها التجربة.

 

وسيرا على المقاربة التشاركية، التي نعتمدها في القضايا الكبرى، كمراجعة الدستور، والجهوية الموسعة، فإننا ندعو إلى إشراك كل الكفاءات الوطنية، والفعاليات الجادة، وجميع القوى الحية للأمة.

 

كما ندعو للتحلي بالموضوعية، وتسمية الأمور بمسمياتها، دون مجاملة أو تنميق، واعتماد حلول مبتكرة وشجاعة، حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن الطرق المعتادة أو إحداث زلزال سياسي.

 

إننا نريدها وقفة وطنية جماعية، قصد الانكباب على القضايا والمشاكل، التي تشغل المغاربة، والمساهمة في نشر الوعي بضرورة تغيير العقليات التي تقف حاجزا أمام تحقيق التقدم الشامل الذي نطمح إليه”.

 

ورغم أن الملك في خطابه السابق أكد حرصه على متابعة الموضوع، والاطلاع عن كثب، على المقترحات، والتدابير التي سيتم اتخاذها، من أجل بلورة مشروع نموذج تنموي جديد، فإن الحكومة والبرلمان على حد سواء لم يتخذا أية خطوة اتجاه تحقيق هذه الغاية، مما دفع الملك إلى التوقف مرة ثانية خلال خطاب العرش ل 29 يوليوز 2018، عند مجموعة من العوامل التي أصبحت تفرض إرساء نموذج تنموي جديد، من قبيل: الإشكالات الاجتماعية والمجالية.

 

وخلال افتتاح الدورة البرلمانية الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة بتاريخ 12 أكتوبر 2018، أقر الملك محمد السادس من جديد بعدم قدرة النموذج التنموي الحالي على تلبية الحاجات المتزايدة للمواطن. ونبه مختلف الفاعلين إلى أن هناك حاجة ملحة لتنمية متوازنة ومنصفة تضمن الكرامة للمواطن؛ من خلال توفير عدد من الخدمات المهنية والصحية والشغل للشباب مع الحديث عن إحداث لجنة استشارية تعمل على وضع الخطوط العريضة لهذا النموذج، تتشكل من شخصيات تنتمي لقطاعات مختلفة، حيث قال في خطاب 12 أكتوبر 2018: “قررنا تكليف لجنة خاصة، مهمتها تجميع المساهمات، وترتيبها وهيكلتها، وبلورة خلاصاتها، في إطار منظور استراتيجي شامل ومندمج، على أن ترفع إلى نظرنا السامي، مشروع النموذج التنموي الجديد، مع تحديد الأهداف المرسومة له، وروافد التغيير المقترحة، وكذا سبل تنزيله”.

في تشخيصه لوضعية التنمية بالبلاد، رصد أربع معيقات أساسية وهي غياب تناسق عمودي بين الرؤية والسياسات العمومية المعلنة وغياب الالتقاء الأفقي بين هذه السياسات، وبطء في التحول البنيوي للاقتصاد، ومحدودية قدرة القطاع العمومي فيما يخص تصور وتنفيذ سياسات عمومية ذات جودة، والشعور بضعف الحماية وعدم القدرة على التنبؤ بالذي يحد من المبادرات.

 

كما يتمحور النمـوذج التنموي الجديد حول مكونات تتداخل وتتكامل فيما بينها، وتشكل في مجموعها منظومة متجانسة ومندمجة كفيلة بتسريع وتيرة انتقال المغرب نحو توازن جديد، يحفز على خلق قيمة مضافة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والمؤسساتي.

 

ومن أجل تحقيق الطموحات والأهـداف الأساسـية التي ينشـدها، فـإن النمـوذج التنمـوي الجديـد يرتكز علـى أربعـة محـاور استراتيجية للتحـول والتـي سـيكون مـن اللازم إنجازهـا وفقـا لمجموعة من المبـادئ والمقاربات المرجعية والواردة في التقرير العام.

 

ويتعلق الأمر باقتصاد منتج ومتنوع قادر على خلق قيمة مضافة ومناصب شغل ذات جودة، ورأسمال بشري معزز وأكثر استعدادا للمستقبل، وفرص لإدماج الجميع وتوطيد الرابط الاجتماعي، ومجالات ترابية قادرة على التكيف وكفضاءات لترسيخ أسس التنمية.

 

كما اقترحت اللجنة وضع “ميثاق من أجل التنمية” بوصفه إطار عمل توافقي طويل الأمد يستخدم مرجعية لتنسيق توالي السياسات العمومية المرتبطة بحكومات معينة، جديرة بالتوقف عندها ومناقشتها. هكذا سيصبح هذا الميثاق، إذا تم تبنيه، نبراسا يحافظ على التوجه العام ويتجاوز الانقسامات السياسية ومختلف المقاربات الحكومية المحدودة في الزمن الانتخابي… قد يكون التنفيذ مختلفا، ولكن المسار والتوجه يظلان ثابتين، مع إجراء تعديلات وملائمات هنا وهناك للتكيف مع الطوارئ التي ستظهر في محيط التنمية، وكذا المستجدات التي ستحصل إبان التنفيذ والتفعيل.

 

يقترح التقرير كذلك آلية للتتبع يرأسها ملك البلاد تصلح لرصد مدى التقدم في التنفيذ على المديات: القصير، والمتوسط، والطويل، نظرا لأن الهدف المتوخى من النموذج هو إحداث طفرة نوعية وتغيير جذري في كيفية تدبير التنمية، فمن الطبيعي جداً أن يكون الملك، بحكم ضمانه استمرارية الدولة حسب مقتضيات الدستور، هو من يسهر على مدى التقيد بأهداف الميثاق والالتزامات الواردة فيه، ورصد التقدم، وضمان تذليل العقبات في حال وجودها.

 

وضع التقرير أيضا رهانات استراتيجية لـ«مغرب الغد» معبرا عنها من خلال التركيز على البحث الموازي للتدخل العملي على المستوى الترابي، والطاقة والخفض من انبعاثات الكربون، والمنصات الرقمية، وتنويع مصادر التمويل، ودعم وتطوير علامة «صُنِع في المغرب». إنها اهتمامات شغلت الطبقة السياسية لمدة من الزمن، لكن الجديد هو ترتيبها بشكل مبتكر يتمحور حول طموحات الازدهار والكفاءة والشمولية والتضامن والاستدامة والجرأة.

 

وفق التقرير في إجراء تشخيص دقيق لأوجه النقص والضعف في منظومة الحكامة بالمغرب، كما تحدث عن ضرورة وضع نموذج متجدد لحكامة المؤسسات العامة والمؤسسات التكوينية والإدارة، لكنه لم يقدم رؤية قوية ومتماسكة ومستديمة للإصلاح الضروري لنظام الحكامة بشكل كلي.

 

من ضمن الموضوعات التي جرى تكرارها في التقرير هو إحساس كثير من المواطنين بالخوف من عدم سيادة القانون، وتراجع منسوب الحريات، وتدهور الثقة بالمنظومة القضائية… هذه أمور وردت في التشخيص، لكنه لم يقترح حلولا أو أفكارا لتجاوزها.

 

إن حاجتنا الماسة اليوم هي لمعرفة الأسباب التي حالت دون نجاح الرؤى والاستراتيجيات ومختلف أوراش الإصلاح خاصة على مستوى التنفيذ. ومن شأن الجواب على هذا التساؤل المركزي إطلاق سيرورة حلقة فُضلى لصالح التغيير.

 

المبحث الثاني: غير المفكر فيه في النموذج التنموي الجديد

واكبت عملية إخراج التقرير العام للجنة الخاصة بالنموذج التنموي مجموعات من ردود الأفعال والتعليقات والتعقيبات والقراءات، تراوحت بين الإشادة والنقد، كما تنوعت الانتقادات نفسها التي طالت عمل اللجنة بين من اختلف مع الشكل قبل الجوهر، وهذا النوع من المنتقدين قد نصنفهم ضمن المدافعين عن أطروحة الانتخاب عوض التعيين، بحيث يعتبرون ان تعيين لجنة بعيدة عن المؤسسات الدستورية وتكليفها بإعداد نموذج تنموي مفروض أن تتبناه الحكومة والبرلمان كمؤسسات دستورية غير معقول ويضرب في روح الدستور وفي المسار الديمقراطي لبلادنا.

 

ولعل هذا الطرح ينسجم مع ما هو معمول به في الدول الديمقراطية التي تحترم قوانينها ومؤسساتها، والتي تحترم العملية الانتخابية التي يتبارى فيها الأحزاب بناء على برامج تعاقدية، كما أن المخططات الاستراتيجية الكبرى تكون فيها قصيرة الأمد وتكون نتاجا للمؤسسات المنتخبة والممثلة ديمقراطيا، والتي تتحمل المسؤولية في سياساتها التنموية.

 

وهذا ما يتماشى مع ما قامت به فنلندا مثلا سنة 1990، لما كلفت حكومتها المنتخبة ديمقراطيا أنذاك لجنة خاصة بإعداد تصور للصناعة والتكنولوجيا تحت اشراف رئاسة الحكومة. واستطاعت عبر مخرجاتها أن تكون من الدول الأولى عالميا على مستوى الذكاء الاصطناعي.

 

وكذلك، فيما حدث في كوريا الجنوبية التي أسست سنة 2000 لجنة حكومية خاصة باقتصاد المعرفة واستطاعت تجاوز الازمة الاقتصادية لسنة 1998، واستطاعت عبر مخرجات هذه اللجنة أن تنجح في عالم التكنولوجيا على المستوى العالمي.

 

هذا الطرح يتماشى تماما مع ما دعا اليه معهد تكامل الأورو متوسطي في تقريره حول المغرب، والذي يعتبر بأن دستور 2011 أعطى لرئيس الحكومة في المغرب صلاحيات هي بمثابة ضمانة دستورية وأخلاقية لبناء نموذج تنموي يحقق من خلاله المغرب الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي في احترام تام للديمقراطية ولمبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة.

 

إن أصحاب هذه الانتقادات لا يرون ما بداخل الكأس، بقدر ما يرون شكل الكأس والأرضية الموضوعة عليها. إذ يجمعهم الخوف على المسار الديمقراطي، ولا يرون أية تنمية منشودة بدون ديمقراطية، والديمقراطية هي تقوية دور المؤسسات الدستورية خصوصا ذات الطابع التمثيلي وتقوية دور الأحزاب من خلالها.

 

من جهة أخرى، اطلعنا على نوع ثاني من الانتقادات، ذي طابع تقني أو فئوي، إذ هناك من اعتبر بأن التقرير العام أغفل مبدأ المناصفة المنصوص عليه في الدستور، وأنه لم يقدم أي توصيات واقعية تحقق هذا المبدإ.

كذلك، هناك من اعتبر بأن التقرير غلب عليه طابع التشريح وتحميل المسؤولية لجهات معينة دون جهات أخرى، إذ بقي صامتا فيما يخص الأسباب والعوامل التي أدت إلى الأزمة الاقتصادية ومؤشراتها.

 

ولعل ثاني أهم موضوع شمله الانتقاد بعد ثنائية النموذج التنموي والديمقراطية، هو موضع الإنسان المغربي في هذا النموذج، إذ رغم أن التقرير خصص محورا مهما لإدماج الكفاءات ودعا لتعزيز الرأسمال البشري وجعله أكثر استعدادا للمستقبل من خلال مجموعة من المداخل تنوعت بين التعليم الجيد والتكوين المهني فإن التقرير أعيب عليه تناول هذا الموضوع بسطحية وبدون الغوص في عمق المشاكل التي يتعرض لها الإنسان المغربي، وعلى رأسها ما خلص اليه تقرير البنك الدولي “المغرب في أفق 2040″ في أكتوبر 2017، من فوارق اجتماعية شاسعة واقتصاد مبني على الاحتكار والريع.

 

إذ من المفروض على اللجنة الخاصة قبل التفكير في بناء مغاربة المستقبل، إنصاف مغاربة اليوم وذلك بالدعوة إلى إعادة توزيع الثروات وتحقيق المبادئ المنصوص عليها في الدستور وهي المساواة والإنصاف والحرية والعدالة والكرامة والمناصفة وتحقيق الأبعاد التي يقوم عليها نظام الحكم في المغرب والواردة في الفصل الأول من الدستور: ” نظام الحكم في المغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية.”.

 

كما يقتضي الأمر توفير خدمات اجتماعية ومرافق عمومية جهوية، تساهم في تحقيق اكتفاء ذاتي لدى المواطنات والمواطنين. خاصة في ظل الفوارق الاجتماعية والمجالية التي تعرفها الجهات، وعدم التكافؤ الحاصل على مستوى الاستفادة من المرافق العمومية وفسح المجال أمام الكفاءات، لتحقيق مشاركة فعلية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع توزيع الثروة بشكل عادل.

 

عموما، فلقد تم تعيين اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي لتجيب عن انتظارات المغاربة، ولكن أشغالها والتقرير العام المنبثق عنها طرح بدوره أسئلة مقلقة زادت الانتظارات تعقيدا، خصوصا وأن بلادنا كانت تستعد في زمن خروج التقرير العام لاستحقاقات انتخابية تشريعية وجماعية، مع ما واكبها من جدالات ونقاشات حول مؤشرات إنجاح المسارات الانتخابية والسياسية والديمقراطية، بالشكل المطلوب والسليم لإعداد أرضية تنموية جيدة قابلة للتنزيل الجيد والسليم.

المصطفى تاج