مرّ الإذاعة أوالراديو التي غيرت الطريقة التي يتواصل بها الأفراد والجماعات، وظلت متمكنة من المحافظة على مكانتها وقدرتها على الصمود وسط أعاصير وسائل التواصل الاجتماعي وتداعيات الثورة الرقمية ومتغيرات القرن الحادي والعشرين.

ولأهمية الإذاعة باعتبارها وسيلة إعلامية تؤمن الوصول إلى جمهور واسع من المستمعين، وتأكيدا على دورها في عمليات التواصل، قررت الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة  ( اليونيسكو ) عام 2011، إعلان يوم 13 من فبراير ( شباط) من كل عام يوما عالميا للإذاعة. ولقد اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2012. وجرى الاحتفال بذكرى مرور أكثر من قرن على تأسيس الإذاعة، تحت شعار” الإذاعة والثقة”.

ما السبب وراء استمرارية الإذاعة لأكثر من قرن رغم منافسة الوسائل الإعلامية والتواصلية الأخرى؟ الجواب ربما يرجع أساسا إلى كون الإذاعة الأكثر استخداما في العالم وانتشارا بفضل قدرتها الفريدة على الوصول إلى جمهور واسع وخلق مساحة للجميع للتعبير عن آرائهم وإسماع صوتهم، فضلا عن كونها تعد واحدة من أكثر الوسائط الموثوقة، حسب توفيق الجلاصي المدير العام المساعد للاتصال والمعلومات في منظمة (اليونسكو).

الوصول السريع إلى المعلومات

رغم أن جائحة ” كوفيد-19″ وتطورات الأحداث الدولية، ساهمت في تراجع منسوب الثقة في وسائل الإعلام، تيجة انتشار الأخبار الزائفة، وتبادل واسع لمضامين ومحتويات مضللة تروجها وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الإذاعة وفرت وصولا سريعا إلى المعلومات وتغطية “مهنية” ملحوظة حول القضايا ذات الاهتمام العام. وفي لقاء مع ” الشرق الأوسط”، تساءلت عائشة التازي الأستاذة الباحثة بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالعاصمة المغربية الرباط، ” هل تستطيع الإذاعات سواء الخاصة  أو العمومية في ظل رهانات الرقمنة والمحتوى الجيد، كسب الرهان”،  والاستجابة لأفق انتظار كوني لم تعد أبجديات  الاعلام التقليدي بقادرة على إقناعه”، هل تستطيع ذلك بينما تشدد الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري بالمغرب ( الهاكا ) وهي هيأة تقنين مستقلة، على ضرورة ” كسب رهان الثقة والارتقاء بأخلاقيات الممارسة المهنية” .

من جهته قال رشيد الصباحي الإذاعي المغربي المخضرم رئيس نادي الصحافة بالمغرب ل” الشرق الأوسط” أن إقرار يوم عالمي للإذاعة : “يعد تأكيدا على دورها التواصلي باعتبارها أهم الوسائل القريبة من الجمهور، ورافد اعلاميا وأداة رئيسية لعلاقة المتلقي مع العالم، إذ أن الكثيرين أخطأوا التقدير حين ظنوا أن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ستقضى لا محالة على دور الإذاعة، وتناسوا أنه عند بداية التلفزيون قبل عقود من الثورة الرقمية روج آخرون بأن هذه الوسيلة المرئية، ستشكل لا محالة نهاية جديدة للراديو. لكن الإذاعة ستظل كذلك مستقبلا محافظة على مكانتها ومواصلة صمودها، حسب الصباحي الذى اشتغل لمدة طويلة بالإذاعة الوطنية المغربية وبعدها خاض تجربة بإحدى الإذاعات الخاصة.

الإذاعة عابرة للحدود وبدون تأشيرة

وعزا الصباحي ذلك لعدة “لأمرين اثنين:، الأول أن الإذاعة تمثل أداة لتنمية خيال المتلقي، والثاني كونها قريبة منه في أي مكان يوجد فيه الى جانب كونه يتوفر على حرية اختيار المحطة التي يريد. وانتقلت هذه الوسيلة الإعلامية، من إذاعة ملقنة الى إذاعة تفاعلية وموضوعاتية، جعلها توطد علاقتها بقضايا المتلقي بشكل أفضل”.

وحقا، “تكمن قوة الإذاعة في كونها تساعد على تنمية الذاكرة وتمكين المتلقي من اراحة ذهنه من خلال الاستماع إليها، وتوسيع مداركه وخياله مع تنمية قدرة المستمعين على الإبداع والاستنباط فضلا على تزويد الجمهور بمستجدات الأخبار والمعلومات في شتى ضروب المعرفة”، كل هذا مكن الإذاعة، بفضل الثورة الرقمية، من أن تصبح عابرة للحدود بدون تأشيرة. ووفرت لها التطبيقات التكنولوجية الجديدة من الارتباط بالمتلقي مباشرة عوض البحث عن الذبذبات، كما كان عليه الشأن في الماضي.

أما الصافي الناصري الصحافي بالإذاعة الوطنية المغربية فيقول ل”الشرق الأوسط” إنه ” رغم من مرور ما يزيد عن قرن من ظهور الإذاعة التي تتميز بعدة خاصيات منها: مرونة  الاستماع لها بغض النظر عن أمكنة وجود الفرد، لا يزال لها حضور  قوي في المشهد الإعلامي. إلا أنه استدرك قائلا: ” خلال القرن الواحد والعشرين ..لم نعد في العصر الذهبي للإذاعة:، بمعنى ما كانت عليه في عقدي ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وذلك نتيجة دخول وسائط إعلامية وتواصلية جديدة في مقدمتها الانترنيت.

عودة الى عائشة التازي، فإنها في معرض ردها على سؤال ل” الشرق الأوسط” حول تجربة الإذاعات الخاصة بالمغرب، شددت على ” أهمية اخضاع هذه الإذاعات للمساءلة الناقدة، بعد مضي 15 عاما” موضحة أن الممارسة المهنية، وهذه مدة  كافية لاختمار التجربة، خاصة مع تسجيلها نسبة الاستماع بلغت  في 15 مليون مستمع، موضحة أن ” هذه المؤشرات وغيرها تجعلنا إزاء شريك فعلي بثأثيت المشهد الإعلامي الوطني”.

لكن ثمة أسئلة مؤرقة، للمهتمين والمتابعين، مثل .. كيف يتمثل هذا الشريك ( الإذاعات الخاصة ) دور الإعلام، وأي مرجعية فلسفية يستمد منها تصوره لوظيفة الاعلام؟ وهل الإعلام بالنسبة للشريك خدمة عمومية مشروطة بضوابط مهنية وأخلاقية يجب تمتيع المواطن المغربي بها؟ أم هي مجرد مقاولة ربحية يتحكم فيها، أو يحتكم فيها إلى نسبة الاستماع؟ هذه تساؤلات طرحتها عائشة التازي على تجربة الإذاعات الخاصة بالمغرب.

وتفيد الأرقام الصادرة عن المركز المهني لقياس نسب الاستماع للإذاعة برسم عام 2021، أن ثلثي المغاربة يستمعون للإذاعات الخاصة التي تضم 20 خدمة إذاعية تبث بالتشكيل الترددي ( إف إم ) مقدمة من طرف 13 متعهدا. أما خدمات القطاع العمومي، فتشمل خمس إذاعات ذات تغطية وطنية و11 إذاعة ذات تغطية جهوية.

من جهته، يعتبر رشيد الصباحي أن الإذاعات الخاصة، ” لم تتمكن من تقديم القيمة المضافة للمشهد الإعلامي، ولم تترجم عمليا كذلك الأهداف التي يرمي إليها قرار تحرير الفضاء المسموع والمرئي خاصة لجهة ضمان جودة المضامين والارتقاء بالذوق العام للمستمعين”. إذ عوض أن تساهم – كما هو مطروح على عاتقها – في خلق سوق استثمارية إعلامية جديدة، وتمكين الأجيال الجديدة من الصحفيات والصحفيين من فرص للشغل وظروف عمل لائقة، ” إلا أن الذى حصل – وفق الصباحي – هو تقديم مواد وبرامج ضعيفة من ناحية الشكل والمضمون، علاوة على أن غالبيتها تعتمد على موارد بشرية، “تفتقر إلى المؤهلات المهنية والخبرة والتكوين الأساسي لممارسة المهنة مع سيادة الارتجال وضعف في المردودية والأخلاقيات المهنية”.

تجويد الأداء المهني

في المنحى نفسه، يؤكد الصافي الناصري على أن المنافسة بين الإذاعات الخاصة، ” لم تؤد الى تجويد أدائها ومنتوجها المهني بقدر ما أبانت، عن  انحدار واضح على مستوى المضامين، وحادت عموما عن الوظائف الحقيقية للإعلام المتمثلة في الاخبار والتحسيس والتثقيف والتوعية والتربية، على خلاف ما هو مطلوب منها في مجال إشاعة القيم التربوية والثقافية و اللغوية”. وأعرب الناصري عن اعتقاده بأن ” التراجع في هذه المضامين لربما تحركه المنافسة والربح” مقترحا “وقفة لتقيم ما هو إيجابي وما هو سلبي” بعد انصرام 15 سنة على تحرير الفضاء السمعي البصري.

جدير بالذكر بأنه شرع في منح التراخيص الأولى إلى الإذاعات الخاصة بالمغرب عام 2006، وأضحى لها” حضور معتبر في الحياة اليومية للمغاربة ولكل المقيمين في البلاد”، حسب (الهاكا ) التي تعتبر أن تطوير الإذاعات الخاصة، لا يتوقف فقط على الروافع المالية والاقتصادية والمقاولاتية، ولكن تقوية الثقة في أخلاقيات الممارسة المهنية وتعزيز صحافة الجودة هي أيضا روافع أساسية لتمتين الرباط مع المواطن”.

وهنا ترى عائشة التازي أن غالبية هذه الإذاعات ” تبنت منطق تبضيع وتسلية المستمع، بدل تثقيفه، وانعكس ذلك على أسلوب المعالجة الإعلامية واللغة المستخدمة، واستدعت بالضرورة منشطا، يفتقد غالبا الى الكفاءة والاقتدار المهني، الأمر الذي جعلنا إزاء تعدد محطات، كمي وليس نوعيا.. بل مجرد تعداد لنفس النموذج”، مع وجود ” استثناءات، تبنت مفهوم الاعلام الجاد الذي يكشف الاعطاب ويحلل الوقائع”.

إن السؤال الثقة والموثوقية، بالنسبة للإذاعة أصبح رهانا ضاغطا في سياق تواصل رقمي شمولي مهيمن وغير مقنن، وهو ما دفع هيئة (الهاكا) على ما يبدو إلى التأكيد في بيان لها بمناسبة اليوم العالمي للإذاعة، على الحاجة إلى تدابير أخرى، “يتيح اعتمادها تقوية اليقظة المهنية وضمان احترام حق المواطن- المستمع في مضمون إعلامي موثوق وذي جودة.

عن صحيفة “الشرق الأوسط”*