بقلم عبد العزيز غياتي: المادة 13 عنوان النُّكوص بحقوق مهنيي الصّحة نحو المجهول

“يُلزم مهنيو الصحة، في ممارسة مهامهم، باحترام أوقات العمل العادية، وبأن يكونوا رهن إشارة الإدارة، كلّما اقتضت ضرورة المصلحة ذلك. ويمكن دعوتهم لممارسة مهامهم خارج أوقات العمل المذكورة، سواء بالليل أو بالنهار وخلال أيام العطل والأعياد، بما يضمن استمراية سير المؤسّسات الصحية التابعة للقطاع العام في تقديم العلاجات والخدمات الصحية والاستجابة للحالات الصحية الطارئة والمستعجلة. كما يمكن دعوتهم، بصفة استثنائية إذا استدعت ضرورة المصلحة ذلك، لإنجاز مهام محددة وبصفة مؤقتة، خارج أوقات العمل السالفة الذكر بالمؤسسات الصحية المذكورة بصرف النظر عن مقرات تعيينهم. يستمر مهنيو الصحة، اعتبارا لخصوصية بعض الأعمال المهنية، لاسيما من حيث طبيعتها ونوعيتها والحيز الزمني الذي تتطلبه، في إنجاز هذه الأعمال بصرف النظر عن أوقات العمل السالفة الذكر. تحدد كيفيات تطبيق هذه المادة بنص تنظيمي”. المادة 13.

تُستهلّ هذه المادة من مشروع قانون 09.22 المتعلّق بما يسمّى الضّمانات الممنوحة للموارد البشرية بالوظيفة الصحية بكلمة “يُلزم”، وتلكم إشارة إلى نظام الخدمة الإلزامية التي لازالت سارية المفعول في نظام العمل في القطاع، والإلزامية أُخرجت في 2007 كحلّ ترقيعيّ لتدعيم نظام الحراسة وهو باختصار: إلزامية المهنيين المعنيين بها داخل دائرة قريبة من مقرّ العمل وذلك من أجل تقديم خدمة صحية مستعجلة عند الاقتضاء بالمؤسسة الصحية المعنية، وهو نظام ظالم وغير إنساني وفاشل من حيث المردودية؛ ظالم لأنّه يفترض في المهني العمل 24 ساعة في اليوم لعدّة أيّام متتاليّة، باعتبار أنّ مجرّد تقييد حرية التنقل للمهنيّ وربط حركته بجوار مقرّ العمل، وحالة التوجّس والاستعداد المستمرة خلال اللّيل والعطل والأعياد، التي هي فترات استراحة، للاستجابة لنداء المنادي، يعتبر أشدّ وطـأ على النفس والجسد من التّواجد الفعلي بمقرّ العمل.

أمّا في حالة دخول هذا الأخير – وذلك هو الحاصل – لتقديم خدمة استعجاليّة معيّنة في الليل أو النّهار، خلال العطل أو الأعياد فذلكم هو نظام الحراسة بلحمه وشحمه بفارق غير بسيط هو حرمان هذا الإنسان الغير الآلي من الاستراحة التي يخوّلها له القانون والفيزيولوجيا البشريّة بعد أداء فترة الحراسة، وحرمانه من التّعويض المادّي الذي يضاهي ما يتقاضاه عند أداء الحراسة بمعناها الحقيقي.

ويبدو أنّ المادّة 13 هي استنساخ وتسمين لنظام خدمة الإلزاميّة وتوسيعه ليشمل كلّ المهنيين بدون استثناء، وتحريره من الاقتصار على مقرّ العمل الأصلي ليشمل كلّ الإقليم أو ربّما كلّ الجهة الترابيّة، ومن الاقتصار على الحالات المستعجلة ليشمل كلّ الخدمات الصّحيّة، وبالتالي إذا كانت الإلزامية كما سبق ذكره أُحدثت من أجل الأداء المقنّع لمهام الحراسة لتجاوز النقص في العنصر البشري الضّروي لتنظيمها من أجل تقديم خدمات صحيّة مستعجلة، فإنّ المادّة 13 أُخرجت لعلاج النقص الحاد في الموارد البشريّة الأساسيّة لتقديم الخدمات الصحيّة عموما؛ الاستعجالية وغيرها، بالليل والنهار، خلال العطل والأعياد وخلال أوقات العمل وخارجها، لذلك أعتقد أنّ كلّ حديث سابق عن إصلاح المنظومة الصحيّة ذُكر فيه العنصر البشري كان المقصود منه الرفع من تعداد المهام من المعدود إلى اللّامحدود، والرفع من عدد ساعات العمل إلى 24 ساعة في اليوم وليس شيئا أخر.

صحيح أنّ المادة 7 من نفس مشروع القانون تتحدّث عن مكوّنين لأجرة المهنيّين: “جزء ثابت يشتمل على المرتب والتّعويضات المخولة لهم بموجب الأنظمة الأساسيّة الخاصّة بهم المطبقة عليهم، وجزء متغيّر يخول، وفق المبالغ والشروط والكيفيات المحددة بنص تنظيمي، على أساس الأعمال المهنية المنجزة”، ولكن لماذا حين الحديث عن المهام يتمّ التّصريح بتفاصيلها المملّة في المادّة 13، ويتمّ التّأكيد على إلزاميّتها، وليس وضعها موضع الاختيار مقابل أجرة منصفة إلى درجة الإغراء، وفي المقابل حين الحديث ضمنيّا عن التعويض عن هذه المهام في الجزء المتغيّر من الأجرة في المادة 7 يمّ الاكتفاء بالتلميح فقط وإحالة التّفاصيل على نصّ تننظيمي؟ والكلّ يعلم أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، ويعلم مدى هزالة التّعويض الذي يصرف اليوم مقابل الإلزاميّة في شكلها الحالي، ولا أحد يعلم متى وكيف سيصدر ذلك النص التنظيمي، كما لا أحد يعلم كم من الزمن سوف يصمد النظام الأساسي الخاص بالمهنيين إلى جانب النظام الأساسي لمستخدمي المجموعة الصحية الترابية، في ظلّ سلطة واختصاصات مجلس إدارة المجموعة في هذا المجال الوارد في المادّة 7 من مشروع قانون 08.22.

ستشكّل هذه الإلزاميّة التّلقائية الواردة في المادة 13 حيفا تاريخيّا بالنسبة للموظفين، خاصّة منهم الفئات التي تمثّل الحلقة الأضعف في المنظومة، الذين سيتمّ نقلهم إلى المجموعة كما تنقل الأموال المنقولة والعقارية، وبالتالي بعد أن كان المهنيّ في قطاع الصحة يملك مبدئيا أكثر من ثلثي يومه لنفسه سيصبح كلّ يومه (24 ساعة) ملكا للمجموعة، فهل سننتقل من رقّ الوظيفة و رقّ الأجر كما تحدّث عنه “محمود العقّاد” و”ناعوم تشومسكي” إلى العبودية كما عرّفها “فريدريش نيتشه”؟ وهل يمكن تبرير تمرير هذا الحيف بالسيناريو القديم الجديد الذي يسمّى اتفاقا مع الشريك الاجتماعي؟ وهل يعتبر ممثّلا للمهنيين من يشارك في مسلسل النّكوص والتخلّي عن الحقوق والمكتسبات التي راكموها بشقّ الأنفس جيلا بعد جيل، منذ التخلّص من ربقة الاستعمار الفرنسي إلى دستور 2011؟ وهل يعقل أن يُرهن للمجهول مستقبل مهنة عريقة وأجيال من المهنيين في لحظة عجلة وبجرّتي قلم؟ إنّها حيثيات مجحفة حتى لو وردت في إطار التعاقد الذي هو شريعة المتعاقدين؛ لأنّها شروط مفروضة على الطّرف الضعيف من قبل طرف قوي في إطار سوق شغل أصابها البوار ابتداء.

تلكم قراءة بسيطة لموضوع يُفترض أن يحظى بأوفر نصيب من النّقاش من قبل المهنيين وغيرهم من المهتمين بقطاعي الصّحة والشغل، ويبدو أنّ هذه المادة المستفزّة ليست فريدة من نوعها، بل عنوانا لما تحيل عليه المواد الأخرى من إشكاليات متعلّقة مثلا بخوصصة القطاع ومسألة التعاقد أو غيرهما، كما يحتاج إلى قراءة أكاديمية وتمحيص علمي، وذلكم هو الدور الجوهري للشريك الاجتماعي والسياسي الذي يجب عليه قبل التأشير على الموافقة أن يخلص إلى موقف موضوعي من هذه المشاريع متوسلا بخبرائه أو بغيرهم، ويقنع نفسه قبل قواعده بذلك.