بقلم جمال المحافظ..الصحافة الاستقصائية تحدي جديد

لم تحظى الدراسة الموضوعاتية حول ” الصحافة الاستقصائية بالمغرب”. تضمنها التقرير السنوي الذى عممته مؤخرا الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها بالاهتمام المطلوب خاصة من لدن المهنيين والمهتمين بالشأن الإعلامي والصحفي.

ففي الوقت الذي خلصت الهيئة الوطنية في هذه الدراسة الى أن حضور هذا الجنس الصحفي. ليس نادرا فحسب، بل إن التحقيقات التي تُنجز حول المواضيع الحساسة ” لا تذهب إلى العمق، بل تتوقف عند حدود معيّنةّ”. ربطت ما وصفته ب” الحضور الباهت” للصحافة الاستقصائية في المغرب بـ”البيئة العامة التي تشتغل فيهاّ” .

ولاحظت في هذا الصدد أن هذه البيئة، ” تشهد تحولات كثيرة، بين التقدم أحيانا وبعض التراجع أحيانا أخرى”. وهو ما جعل الهيئة على ما يبدو تعرب عن اعتقادها بأن هذا الأمر لم يسمح بعدُ بالوصول إلى صحافة استقصائية متحررة من القيود الذاتية. التي تكبحها وتمنعها من القيام بدورها الكامل في مراقبة تدبير الشأن العام في كل مناحيه. وفي تنوير الرأي العام ومدّه بالمعلومات الضرورية الكافية والموثقة التي تساعده على اتخاذ قراراته عندما يقتضي الأمر.

قيود وتأثير

وتأتى صعوبة الحصول على المعلومات. في مقدمة العراقيل التي يواجهها الصحافيون المشتغلون في حقل الصحافة الاستقصائية – حسب واضعي التقرير – الذين أقروا بوجود خلل في تنزيل الفصل 27 من الدستور الذي ينص على الحق في الحصول على المعلومات. سواء تلك الموجودة في حوزة الإدارة العمومية أو لدى غيرها، معتبرين أن ضُعف حضور هذا الجنس الصحافي بالمغرب. ” يُفسَّر أساسا بضعف قدرته على التأثير وبطبيعة القضايا التي يعالجها”.

غير أنه إذا كان التقرير قد أكد على ” الحاجة إلى تعزيز حماية الصحفيين من خلال توفر الظروف الضرورية لتعزيز مقومات النهوض بالصحافة الاستقصائية”. فإنه أهمل بالمقابل عوامل أخرى حاسمة في قيام صحافة استقصائية، في مقدمتها الأهمية التي تكتسيها هوامش حرية الصحافة ودور وسائل الإعلام في ترسيخ الديمقراطية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. وذلك اعتبارا لكون الديمقراطية، تستند إلى إرادة المواطنات والمواطنين، التي يتعين التعبير عنها بحرية أثناء أنظمتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهو ذات التوجه الذي سارت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة. منذ 2007 حينما قررت تخصيص يوم عالمي للديمقراطية، في الخامس عشر من شتنبر من كل عام.

حرية التعبير

كما أن مختلف وسائل الإعلام العمومية والخاصة، لا يمكن أن تحيا بدون حرية الصحافة وحرية التعبير. في ظل ما يعرفه العالم في المرحلة الراهنة من ” محاولات إسكات الصحفيين التي تتزايد يوما بعد يوم ( خاصة الصحفيات). الذين يتعرضون للتهجم اللفظي والترصد على الإنترنيت والمضايقات القانونية” فضلا عما يواجهونه من ” ممارسات الرقابة والاحتجاز والعنف البدني. بل ويتعرضون للقتل دون أن ينال الجناة عقابهم في كثير من الأحيان، وهو ما يؤدى حتما إلى زعزعة الاستقرار وتفشي الظلم وإلى أدهى من ذلك وأمرّ “. كما سجل مؤخرا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

وأثار تقرير الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، الانتباه الى ” ما وصفه بـ” الالتباس الذي تعيشه مهنة الصحافة، جراء ظهور الوسائط الجديدة التي لا يشملها قانون الصحافة والنشر”. بيد أنه نتيجة الثورة الرقمية، أصبح الحصول على المعلومات الذى كان امتيازا خاصا للصحافة وللصحفيين. في متناول الجميع. وهكذا تواجه وسائل الإعلام على مستوى العالم، بشكل متزايد هجمات على أرض الواقع وعبر الإنترنت مما يزيد من اللجوء إلى قوانين التشهير والأمن السيبراني والقضاء.

 

فرص جديدة

 

التكنولوجيا الحديثة، وفرت بالمقابل، إمكانيات جديدة وأتاحت فرصا أخرى لانتعاش الصحافة الاستقصائية التي لا تكتفى بالبحث عن الأخبار. بل بالبحث عما ورائها بهدف الكشف عن الأحداث وسياقاتها المتنوعة. بغية تزويد القراء بأخبار أكثر عمقا وتحليلا وتفسيرا، وأضحى هذا الجنس الصحفي مصدرًا رئيسا للمعلومات. وتمكن من التحول إلى أكثر القوالب الصحفية التي تحتفظ للصحافة بأهمية وجودها في عصر الوسائط الاجتماعية التي توفر من فرصا كبيرة في مجالي الاتصال والتواصل.
فهذا التحول جعل نساء ورجال الاعلام، في المجتمعات الديمقراطية، يلجؤون الى توظيف أجناس صحفية فرضتها المتغيرات التكنولوجية. منها صحافة التحقيق والبيانات الضخمة (Big Data ) التي تحتوى على تنوع أكبر. والوصول إلى وحدات تخزين متزايدة وبسرعة أكبر وكذلك الصحافة الاستقصائية التي أصبحت تحتل مكانة متميزة وانتشارا واسعا. جعلها تستأثر بالاهتمام من لدن الرأي العام لدورها في الكشف عن حقيقة ما تتضمنه الملفات الأكثر تعقيدا.

 

تدفق المعلومات

 

مع العلم أن الصحفيين على المستوى العالمي، يواجهون على نحو متزايد قيودًا على قدراتهم على العمل بحرية فضلا عن مخاطر تأثير هذه القيود على حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية، إذ عندما تتعرض الحريات الإعلامية للتهديد، فإن ذلك يتسبب في خنق تدفق المعلومات أو تحريفه أو قطعه تمامًا، في الوقت الذي تعد وسائل الإعلام الحرة والمستقلة والمتعددة والقادرة على تثقيف الجمهور بالقضايا ذات الاهتمام العام، عنصرا أساسيا للديمقراطية، لكونها تُمكن الجمهور من اتخاذ قرارات مستنيرة ومساءلة الحكومات، كما تورد الأمم المتحدة في تقاريرها.
وعلى الصعيد الوطني، يلاحظ بأنه على الرغم من أن دستور 2011، نص لأول مرة بالخصوص على الحق في الإعلام، وضمان حرية الصحافة وصيانة حق الجميع في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية، مع إلزام السلطات العمومية بالتشجيع على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة، وعلى أسس ديمقراطية، وتنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها، واحترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع، فإن العديد من هذه المقتضيات الدستورية، تصطدم بإكراهات موضوعية وذاتية منها، بيئة الممارسة الإعلامية، والنقص الحاصل في التربية الإعلامية، وتراجع منسوب أخلاقيات المهنة، وعدم استيعاب غالبية الفاعلين للأدوار الحاسمة التي تضطلع به الصحافة والإعلام، كجهاز إنذار وأداة لليقظة، وتشكيل الرأي العام.

 

أفق جديد

 

وإذا كانت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، قد عززت تقرريها حول الصحافة الاستقصائية، بتنظيم دورة تدريبية لفائدة 15 صحافيا وصحافية، تهدف إلى تعزيز قدرات الصحافيين في مجال التحقيقات الصحافية في قضايا الفساد، وتشكل ” نواة أولية ستساهم في مسار تقوية مجال الصحافة الاستقصائية في المغرب” حسب أحمد العمومري، الكاتب العام للهيئة الذي كان يتحدث الاثنين 29 يناير الجاري في افتتاح هذا اللقاء الذي يستغرق خمسة أيام.
وبغض النظر عن أهمية الصحافة الاستقصائية، الذى فتحت فيه هذه الهيئة الوطنية، أفقا جديدا في مجال تطوير الأداء الصحفي، فإنه ينبغي ألا يغرب عن البال، أنه في الحالة التي تفقد فيها مؤسسات الوساطة، ( الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني)، مصداقيتها، تظل الصحافة حاضرة، باعتبارهما أداة رئيسة لتشكيل الرأي العام وتوفير المعلومات المخالفة، ومنها المرتبطة بتدبير الشأن العام.